الجهاد الصامت

🖋️ الشيخ محمد الربيعي
حين نستعرض السيرة النيّرة لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإنّ القلم يعجز عن التعبير عن تضحياتهم العظيمة في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى ، ودأبهم على نشر الدين المحمّدي الأصيل ؛ إذ إنّنا نقف أمام مدرسة عظيمة تنوّعت أدوار كلّ فرد من أفرادها ومواقفه ، إلاّ أنّ هدفها واحد ، وهو إقامة حكومة العدل الإلهي وتطبيق السُنّة المحمّدية ، مثل هذا المشروع الإلهي العظيم ، يتطلّب التضحية والفداء بالدم والروح والنفس والأهل ـ أحياناً ـ كما هي كربلاء الحسين ( عليه السلام ) ، وأحياناً أخرى بالكلمة ، والموقف ، والصبر ، والثبات ، كما هي السيرة الجهادية للإمام الحسن ( عليه السلام ) .
والأدوار التي قام بها أهل البيت ( عليهم السلام ) رغم اختلافها الظاهري ـ للوَهلة الأُولى ـ إلاّ أنّها في الحقيقة وحدة متكاملة ومنهجية متناسقة ؛ حيث كلّ عنصر فيها قام بإكمال دَور العنصر الآخر ، وبالتالي هي سلسلة محمدية واحدة تعمل على تحقيق الهدف المنشود ، أَلا وهو إقامة حكومة العدل الإلهي على يدَي صاحب العصر والزمان الإمام الحجّة المهدي ( عجّل الله تعالى فرَجه الشريف ) في آخِر الزمان .
فاختلاف الأدوار في السيرة الجهادية العطرة لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، لا يعني ـ على سبيل المثال ـ أنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) رجل ثورة وقتال فقط ، بينما الإمام الحسن ( عليه السلام ) رجل مهادنـة وسلـم ، بل الواقع غير ذلك ، فالسيرة الحسينية الجهادية غلَب عليها طابع الصلح مع العدوّ لأسباب وظروف اقتضت ذلك ، بينما السيرة الحسينية غلب عليها طابع الثورة والجهاد لأسباب وظروف أخرى مختلفة ، وخير دليل على ذلك عند استعراضنا الحياة الجهادية للإمام الحسن ( عليه السلام ) ، فهي تارة مليئة بالمواقـف ، والبطـولات ، والتضحيات ، وتارة تستلزم
الصلح والمسالمة ، ولكن في كلتي الحالتين يبقى الهدف واحد وهو
وهو : مصلحة الإسلام العليا .
وقد يعتقد البعض بأنّ الحسن ( عليه السلام ) صاحب الصلح والمهادنة ، والإمام الحسين ( عليه السلام ) له الثورة والتمرّد ، إلاّ أنّه لو عكسنا الشخصين لقام كلٌّ منهما بنفس الدَور ، أي الظروف هي التي حكمت بأنّ كلّ منهما يتبع نهجاً ما ، أي الظروف هي تحكم بالحرب أو السِلم ، بينما الدافع والهدف هو واحد ، هو فقط المصلحة العامّة لا غير ).
وعلى هذا الأساس نلاحظ بأنّه عند الحديث عن سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، فإنّه يتبادر مباشرة للذهن صُلحه مع معاوية ، وكأنّ حياته ( عليه السلام ) كلّها تُختزل في هذا الصلح ـ وذلك بغضّ النظر عن أهمّيتها ـ وبالتالي هو بعيد كلّ البُعد عن ساحات القتال والمواجهة ، لكن سيرته سلام الله عليه تحدّثنا بغير ذلك .
تحدّثنا بأنّه أعَدّ الجيوش والمقاتلين لقتال معاوية عندما سمحت له الظروف بذلك ، لكن عامل المفاجأة الذي برز في صفوف جيشه ( عليه السلام ) ـ كبروز حالات الخيانة والغدر ـ دفعه نحو الصُلح مع معاوية ، أليس هو القائل ( عليه السلام ) مجيباً أحد أصحابه العاتبين عليه بالصلح : ( والله لو وجدت أنصاراً لقاتلت معاوية ليلي ونهاري ) ؟ .
وفي موقع آخر يردّ ( عليه السلام ) على أحد أعدائه ، وهو ( عبد الله بن الزبير ) ، الذي كان يُعلن مناوئته لآل محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فكان ممّا أجابه به قوله ( عليه السلام ) : ( وتزعم أنّي سلّمت الأمر ، وكيف يكون وويحك كذلك ؟ ، وأنا ابن أشجع العرب ، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين ، لم أفعل ذلك ويحك جُبناً ولا ضعفاً ، ولكنّه باغٍ مثلك … ) .
ومع كلّ هذا وبعد وقوع الصلح مع معاوية ، استمرّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) في مسيرته الجهادية ضده ، بل عمل على تمهيد الأرضية المناسبة للثورة الحسينية الكربلائية ، وشهادته ( عليه السلام ) ، وقتله مسموماً خيرُ دليل على ذلك ، وإلاّ لماذا قُتل الحسن ( عليه السلام ) لو كان رجل مسالمة وصُلح مع العدوّ ؟! فأيّ تأثير له على نظام معاوية ما دام كذلك ؟! .
فالجواب : واضح وبديهي ، هو أنّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) هو رجل ثورة ضد الظلم بكلّ ما للكلمة من معنى ، سواء كان ذلك الجهاد بالكلمة أو بالسيف ؛ ولهذا أصبح استمرار جهاد الإمام الحسن ( عليه السلام ) ضد معاوية ونظامه المتغطرس عامل خوف ورعب عليهم ، بل شكّل خطراً يهدّد كيان النظام الأموي ، ما دفع معاوية لوضع حدٍّ له ، فكانت الشهادة المباركة .
وبناءً على ذلك ، هو أنّ الكثير من البحوث والدراسات ، يلاحظ بأنّ غالبيّتها تتناول الجانب الفكري والأخلاقي لأئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، بينما الجانب الجهادي والقتالي يبقى غامضاً في
كثير من الأحيان ، ومثال على ذلك سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، حيث أغلَب الدراسات والبحوث التي تناولت حياته المباركة ، تحمِل عنوان ( صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) ) ـ وذلك بغضّ النظر عن أهمية تلك الدراسات ـ ممّا يوحي بأنّ الحسن ( عليه السلام ) رجل صلح ومهادنة فقط .
ولكن واقع وحقيقة سيرته الجهادية أعظم وأشمل من ذلك ، بل هو كما عند بقية الأئمة ( عليهم السلام ) ، كسيرة الإمامين السجّاد والصادق ( عليهما السلام ) ؛ حيث برزت التكتّلات والتشكيلات السرّية تحت إشرافهم وتوجيهاتهم ، رغم أنّ عصر الإمام السجاد ( عليه السلام ) تميّز بنشر الفكر الأخلاقي والعبادي لمدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وتميّز عصر الإمام الصادق ( عليه السلام ) بنشر فقه وعلوم أهل البيت ( عليهم السلام ) .
إنّ غُربة الأئمة ( عليهم السلام ) لم تقتصر على الفترة الزمنية التي عاشوها في حياتهم ، ولكنّها استمرّت ولعصور متمادية من بعدهم ؛ والسبب في ذلك يرجع إلى إهمال الجوانب المهمّة ، بل والأساسية من حياتهم .
من المؤكّد أنّ هناك كتُباً ومؤلّفات كثيرة قد حظِيَت بمكانةٍ رفيعة وقديرة وذلك ؛ لِما حملته بين طيّاتها من روايات تصف حال الأئمة ( عليهم السلام ) ، ولِما نقلته للأجيال المتعاقبة من أخبار تصف سيرتهم ، ولكن عنصر المواجهة والجهاد المرير ، والذي يمثّل الخطّ الممتد للأئمة ( عليهم السلام ) طوال 250 سنة من حياتهم ، كان قليل الذِكر في هذه الروايات التي تضمّنت فقط عناوين أخرى كالجوانب العلمية أو المعنوية من سيرتهم .
يجب علينا أن ننظر إلى حياة الأئمة ( عليهم السلام ) كأسوة وقدوة نقتدي بهم في حياتنا ، لا كمجرّد ذكريات قيّمة وعظيمة حدثت على التاريخ ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بالاهتمام والتركيز على المنهج والأسلوب السياسي من سيرة هؤلاء العظماء ( عليهم السلام ) .
إنّ مواجهة الأئمة ( عليهم السلام ) كانت واجهة ذات هدف سياسي ، فما هو هذا الهدف ؟ إذن الهدف هو عبارة عن تشكيل حكومة إسلامية ، ولا نستطيع أن نقول إنّه كلّ إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره ، ولكن هدف كلّ إمام كان يتضمّن تأسيس حكومة إسلامية مستقبلية ، وقد يكون المستقبل البعيد أو القريـب .
مثلاً كان هدف الإمام المجتبى ( عليه السلام ) تأسيس حكومة إسلامية للمستقبل القريب ، فقوله ( عليه السـلام ) : ( ما ندري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين ) في جوابه للمسيب بن نجيه ولآخرين عندما سألوه عن سبب سكوته ، هو خير دليل وإشارة إلى هذا المستقبل .
محل الشاهد :
في ذكرى الإمام الحسن (ع)، نحاول أن نلتقط بعض كلماته لنتعلَّم من بعد مماته ما علّم به النَّاس في حياته…
قال (ع) لبعض ولده: “يا بنيَّ، لا تؤاخِ أحداً حتَّى تعرفَ مصادرَهُ ومواردَهُ” ، أي إذا أردت أن تتَّخذ صديقاً أو صاحباً، فلا تنظر إلى الظاهر من شخصيَّته ليجذبك كلامه أو لتسحرك صورته، بل عليك أن تدرس هذا الإنسان في موارده ومصادره، وفي كلِّ ما يتَّصل بشخصيَّته، ثم بعد ذلك تقرّر هل تجعله أخاً أو لا، لأنَّ الشخص الذي تتَّخذه صديقاً سوف يتدخَّل في أمورك، وسوف يطبع حياتك بطابعها، وسوف يعرف أسرارك.
ويقول الإمام الحسن (ع): “الخيرُ الَّذي لا شرَّ فيه، الشّكرً مع النِّعمة”، إذا أنعم عليك أحد فاشكره، لأنّ كلّ نعمة هي من الله، “والصَّبرُ على النَّازلة” ، أن تعتبر إذا نزلت بك النوازل، وأن تصبر إذا أحاطت بك المصائب، فإنّ الصَّبر يمثّل قوّة الشخصيَّة وصلابة الموقف الذي يستعين به الإنسان على التخطيط للحاضر وللمستقبل.
ويقول (ع): “العارُ أهونُ من النَّار” ، كالذي يقوم بقتل زوجته أو ابنته ظناً منه أنه يقيم بذلك الحدّ دون الرجوع إلى وليّ الأمر… {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِين}[المطفّفين: 6]، عندما ينساق إلى النَّار أمام العالمين من الأوَّلين والآخرين. فأيّ عار هو هذا العار، وأيّ فضيحة هي هذه الفضيحة؟!
ويقول الإمام الحسن (ع): “يا بنَ آدمَ، عفَّ عن محارمِ الله تكنْ عابداً”, إنَّ عبادة الله هي الخضوع لله، وأعظم درجات الخضوع له، أن تترك كلَّ ما حرّم عليك في كلِّ شؤونك، فإنَّك إذا غضضت عن محارم الله تكن عابداً، لأنها قمّة العبادة، لأنّك تحارب كل غرائزك السيّئة وكلّ شهواتك قربةً إلى الله تعالى.
“وارضَ بما قسمَ الله تكنْ غنيّاً”، اقنع بما قسمه الله لك مما انطلقت فيه في عملك وفي ظروفك، لأنَّ “القناعة كنزٌ لا يفنى”، والطَّمع هو الفقر الحاضر، كما ورد في الحديث، لأن غنى النفس هو الغنى، وقد ورد في الدعاء: “واجعلْ غنايَ في نفسي”، “وأحسنْ جوارَ مَنْ جاورَكَ تكنْ مسلماً”.
إنَّ الإسلام يفرض عليك أن تعيش مسؤوليَّتك مع الناس، ولا سيّما الأقربين منهم، حتى إن رسول الله (ص) قد أوصى بالجار، حتى ظنّ المسلمون أنه سيورثه، كما جاء في حديث الإمام عليّ (ع)، فإنّ العلاقة مبنيّة في الإسلام على أن تكون الجار الطيّب، لا أن تكون الجار الخبيث الّذي يؤذي جيرانه.
“وصاحبِ النّاسَ بما تحبُّ أن يصاحبوكَ به تكنْ عدلاً”، وأن تكون العدل، هو أن تعطي الناس ما أخذته منهم: “يا بنيَّ، اجعلْ نفسَكَ ميزاناً فيما بينَكَ وبينَ غيرِكَ، فأحببْ لغيرِكَ ما تحّبُ لنفسِكَ، واكرهْ له ما تكرهُ لها” .
ثم يقول الإمام (ع): “إنَّهُ كانَ بينَ أيديكم أقوامٌ يجمعونَ كثيراً من المالِ، ويبنونَ مشيداً، ويأملونَ بعيداً، أصبحَ جمعُهم بوراً، وعملُهم غروراً، ومساكنُهم قبوراً. يا بنَ آدمَ، لم تزلْ في هدمِ عمرِكَ منذُ سقطْتَ من بطنِ أمِّكَ، فخذْ ممَّا في يديْكَ لما بينَ يديْكَ، وابتغِ في ما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الآخرةَ، ولا تنسَ نصبيَكَ من الدُّنيا، فإنَّ المؤمنَ يتزوَّدُ والكافرَ يتمتَّعُ، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}” [البقرة: 197]، فالمؤمن عندما يعي أنَّ الدنيا لا تدوم له، فإنّه يتزوّد منها لما بعدها، كما يتزوَّد المسافر في سفره، بخلاف الكافر الذي يرى أنه يستقرّ في الدنيا ويتمتّع بها، فلا يفكر في المستقبل…
اللهم احفظ الاسلام واهله
اللهم احفظ العراق وشعبه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى