التعليم التقني في العراق
Prof.Dheyaa Almuhansis:
التعليم التقني في العراق
-1نشأة التعليم التقني في العراق :
بعيداً عن المدارس أو المعاهد المهنية التي انشأت على فترات متباعدة من تأريخ العراق الحديث فإن التعليم التقني بمفهومه الحديث لم يرَ النور إلا بعد تأسيس مؤسسة المعاهد الفنية عام ( 1969 ) ، وهي بذلك تعد من أقدم مؤسسات التعليم التقني في الوطن العربي . وكانت خمسة معاهد هي النواة التي تشكلت منها المؤسسة وجميعها في محافظة بغداد .
ارتبطت المؤسسة بداية تأسيسها بجامعة بغداد لغاية عام ( 1972 ) حيث باتت ترتبط بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي أسوة بالجامعات العراقية وهي خطوة على قدر كبير من الأهمية لأنها جعلت من المؤسسة كياناً مستقلاً له خصوصيته ومساراته التعليمية وخططه ومناهجه الدراسية وأهدافه التي يسعى لتحقيقها ، وترسخ ذلك بصدور قانون المؤسسة ( رقم 34 لسنة 1976 ) ، ومن بين مواده المادة – 3 – التي نصت على أن ( مقر المؤسسة في بغداد وتتألف من معاهد ذات اختصاص في مجالات التعليم الفني بعد الدراسة الثانوية أو ما يعادلها ) . وجاء في المادة – 4 – من القانون ( تسعى المؤسسة إلى تحقيق المهام والأغراض التالية :
1 – إعداد الأطر الفنية الوسطى التي تتولى تنفيذ التوجيهات والتعليمات والخطط والتصاميم الفنية ، وتكون حلقة الوصل بين الإختصاصيين والعمال الماهرين .
2 – نشر التعليم والتدريب الفني بما في ذلك التدريب أثناء الخدمة في مختلف فروعه ) .
-2 الدراسة في معاهد المؤسسة :
حُددت مدة الدراسة في معاهد المؤسسة بسنتين تقويميتين وبما يعادل ثلاث سنوات دراسية وذلك لتكليف طلبتها بالتدريب الصيفي الذي يستمر لمدة شهرين اعتباراً من ( 1 / 7 لغاية 31 / 8 ) من كل عام وللمرحلتين الأولى والثانية . وخصص للجانب العملي نسبة لا تقل عن ( 70 % ) من مفردات المناهج الدراسية مقابل ( 30 % ) للجانب النظري وهو ترجيح علمي ومنطقي للجانب العملي الذي هو الأساس في عمل الطلبة بعد تخرجهم .
وأكدت تعليمات رئاسة المؤسسة أن لا يزيد عدد الطلبة في الدروس العملية عن ( 20 ) طالباً أسوة بما معمول به في دول العالم . وتمثلت فلسفة التعليم التقني وأهدافه في إعداد وتأهيل كوادر وسطية لردم الفجوة بين الإختصاصيين والعمال الماهرين وقد نجحت المؤسسة في ترجمة فلسفتها وتحقيق أهدافها وقدمت لقطاعات العمل كوادر فنية كفوءة في مجال تخصصاتها فضلاً عن شمول خريجو المؤسسة بالتعيين المركزي وهي دلالة على أهمية دورهم والحرص على الإستفادة منهم .
وكان التدريب الصيفي يخضع لضوابط صارمة ويجري تحت إشراف ومتابعة من المشرف العلمي الذي يكلفه القسم العلمي الإشراف على عدد محدد من الطلبة ، والمشرف العملي الذي تختاره الدائرة من ذوي الخبرة والإختصاص وهو المسؤول عن تطبيق مفردات منهج التدريب الذي يضعه القسم العلمي ويتابع تنفيذه المشرف العلمي ، والطالب الذي يفشل في التدريب الصيفي تكون له محاولة ثانية إن فشل فيها رقن قيده ، وكان الطلبة يعاملون معاملة الموظفين من ناحية الإلتزام بأوقات الدوام الرسمية خلال فترة التدريب .
وكان في كل معهد لجنة تسمى ( لجنة متابعة الخريجين ) مهمتها متابعة الخريجين في المواقع التي يعملون فيها إذ كانت أوامر تعيينهم ترسل إلى معاهدهم ، وكان على هذه اللجنة زيارة جميع تلك المواقع والإلتقاء بالمسؤولين عنها من الإداريين والفنيين فضلاً عن الخريجين ذاتهم وتقديم تقرير مفصل عن ظروف العمل وإن كان الخريجون يعملون ضمن اختصاصاتهم أم لا إلى جانب ما تقدمه اللجان من مقترحات ، وكانت تقارير هذه اللجنة ترسل إلى رئاسة المؤسسة ومن ثم إلى الوزارة التي ترسلها إلى مكتب النائب الأول لرئيس الوزراء . في العام ( 1988 ) تم تغيير تسمية المؤسسة إلى ( هيئة المعاهد الفنية ) على إثر إلغاء العمل بنظام المؤسسات .
شهدت المؤسسة قفزة نوعية في مسيرتها منذ النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي تمثلت بافتتاح معاهد جديدة في بغداد والمحافظات تم بناؤها من قبل شركات عالمية متخصصة وعلى أحدث الطرز وتم تجهيزها بأحدث الورش والمختبرات والأجهزة والمعدات . كما عقدت المؤسسة اتفاقيات ثقافية مع عدد من الجامعات في انكلترا وألمانيا لزج ملاكاتها التدريسية والفنية في دورات تدريبية وللإختصاصات كافة .
انحراف الهيئة عن مسارها :
في العام ( 1993) وخلافاً لقانون مؤسسة المعاهد الفنية استحدثت الكليات التقنية التي مثلت بداية انحراف التعليم التقني عن فلسفته وأهدافه وفي مقدمتها إعداد وتأهيل الكوادر الوسطى للعمل ولا شك في أن حملة البكلوريوس من خريجي الهيئة لا ينطبق عليهم توصيف الكوادر الوسطى لأنهم سيعملون بمعية أقرانهم من حملة البكلوريوس من كليات الجامعات العراقية ولهم ذات الحقوق والإمتيازات ، ويبدوا أن أحداً لم يفكر في اشكاليات هذا الأمر وتداعياته والذي كان على القائمين على شؤون التعليم التقني عدم التفكير أو الخوض فيه ، وكان على الوزارة عدم الموافقة عليه . علماً أن قراراً كان قد اتخذ من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بقبول الـ ( 10 % ) الأوائل من كل معهد في الكليات ذات الإختصاص المشابه للحصول على شهادة البكلوريوس وتم قبول ألاف الطلبة استناداً لهذا القرار ، ونعود لنسأل إذاً ما جدوى استحداث الكليات يا ترى ؟ وهل كانت من أجل التعليم التقني فعلاً ؟
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تم في عام ( 2000 ) استحداث الدراسات العليا لمنح شهادتي الدبلوم العالي والماجستير التقني فأصبحت الهيئة تضم خليطاً غير متجانس من الطلبة يبدأ بطلبة الدبلوم الفني وينتهي بطلبة الماجستير ، ونرى ان استحداث الكليات ومن ثم الدراسات العليا لم يكن الهدف منه الإرتقاء بالتعليم التقني أبداً ولسبب بسيط هو أن كلا الإجراءين أبعدا التعليم التقني عن مساره الذي أسس من أجله وعن الأهداف التي وردت في قانون مؤسسة المعاهد الفنية والذي – على قدر معلوماتنا – ما زال نافذاً لحد الأن ، إذ لو كان الهدف حقاً هو الإرتقاء بالتعليم التقني لكان حري بالقائمين عليه التفكير بوسائل وطرائق ترتقي بمعاهده ومنشأتها وورشها ومختبراتها ومناهجها الدراسية .
في العام ( 2001 ) تم تغيير اسم هيئة المعاهد الفنية إلى ( هيئة التعليم التقني ) بعد أن باتت المعاهد إحدى كيانات الهيئة وليست الكيان الوحيد ولتنسجم التسمية الجديدة مع التغيرات الهيكلية التي باتت جزءاً منها .
أما القرار الذي كان الأكثر ضرراً بالتعليم التقني فهو شطر الهيئة إلى أربعة كيانات في العام الدراسي ( 2014 – 2015 ) أطلق على كل منها أسم الجامعة التقنية وعلى وفق المناطق الجغرافية ، والغريب ليس سرعة اتخاذ القرار ومصادقة الوزارة على مقترح السيد رئيس الهيئة حينها بل في الإبقاء على رئاسة الهيئة دون تحديد لمهامها وواجباتها وصلاحياتها وجدوى الإبقاء عليها وكل ذلك تم دون أن يصار إلى تعديل قانون مؤسسة المعاهد الفنية ، وهي إجراءات تدل على عدم اكتراث القائمين على شؤون الهيئة من جهة ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي من جهة أخرى بشؤون التعليم التقني وربما عدم معرفتهم الكافية بالأسس التي أنشأ من أجلها والأهداف التي حددت له لا سيما وإن المبررات التي قدمت لتمرير هذا القرار الكارثي كانت مبررات واهية إلى أبعد الحدود فضلاً عما تطلبه هذا القرار من استحداث مناصب جديدة والحاجة إلى ملاكات وظيفية تدير الجامعات الجديدة .
والسؤال الذي يطرح الأن هو ما الذي بقي من التعليم التقني ؟ الجواب لم يبق منه شيء ، ففلسفته وأهدافه باتت بعيدة عن مضمونه وعن جزء كبير من مخرجاته ، وسياقات العمل أهملت الغالبية العظمى منها ، وحتى الأسم لم تعد له صلة بالأسم الذي كان يطلق عليه وإن تغير من مؤسسة المعاهد إلى هيئة المعاهد لكن دلالته بقيت ذاتها .
واقع التعليم التقني الأن :
للأسف نقول أن واقع التعليم التقني وتحديدا في المعاهد لا يسر أحداً ، فأعداد الطلبة الذين يرشحون للقبول في المعاهد تفوق بكثير استيعاب المعاهد وكذلك حاجة سوق العمل ، وأصبحت المعاهد بمثابة المستودع الذي ترحل له وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الفائض من الطلبة المتقدمين للدراسة عن طريق القبول المركزي غير مكترثة بخطط القبول التي تقدمها المعاهد سنويا والتي يبدوا أن لا أحد في الوزارة يهتم بها أو يقيم لها وزنا .
وتغص قاعات الدروس العملية بالطلبة وبعد أن كان الحد الأعلى المسموح به في هذه الدروس هو ( 20 ) طالباً باتت القاعة تمتلئ بالعشرات . وتحول التدريب الصيفي إلى تدريب شكلي للطالب والمعهد على حد سواء ، وكفاءة مخرجاته في انحدار مستمر دون معالجات ، ولم يعد للجان متابعة الخريجين من وجود بل لا أحد يذكرها أو يتذكرها . والتدريسيون مثقلون بالساعات الدراسية التي تفوق النصاب بكثير ، ولم تعد الورش والمختبرات تلبي الحاجة ولا تتناسب والتغيرات التي حصلت في العالم .
للأسف ،وضع بعض من يقولون أنهم أبناء التعليم التقني نهاية غير متوقعة له نسفت إلى حد بعيد جهود الأوائل الذين بنوا التعليم التقني وطوروه وقدموا للعرب في أقل تقدير نموذجاً مشرفاً لما يجب أن يكون عليه التعليم التقني .
ولا يفوتنا أن نذكر أن مؤسسة المعاهد الفنية كانت السباقة في دعوة مؤسسات التعليم التقني العربية إلى اجتماع في بغداد عام ( 1978 ) انبثق عنه تأسيس الاتحاد العربي للتعليم التقني ، وانتخب الأستاذ الدكتور ( هاشم محمد سعيد ) رئيس مؤسسة المعاهد الفنية أميناً عاماً له واختيرت بغداد مقراً .
ترى هل من سبيل لإعادة التعليم التقني لمكانته ودوره وبما ينسجم وفلسفته وأهدافه ؟ نقول نعم . من خلال الأتي :
أولاً : إعادة ارتباط المعاهد التقنية في جميع محافظات العراق بهيئة التعليم التقني التي ما زالت قائمة وفك ارتباطها بالجامعات التقنية ، وأن تكون الهيئة كيان مستقل ذو شخصية معنوية واستقلال مالي وإداري ، وترتبط بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي .
ثانياً : يستمر ارتباط الكليات التقنية بجامعاتها .
ثالثاً : التزام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بالأعداد
التي تحددها المعاهد في خطة القبول السنوية .
رابعاً : اعتماد ما كان مطبق في مؤسسة المعاهد الفنية منذ أكثر من أربعين سنة من سياقات علمية تتعلق بأعداد الطلبة في الدروس العملية ، ونسبة الجانب العملي إلى النظري في المناهج الدراسية ، وإعادة الإعتبار للتدريب الصيفي بعده الممارسة العملية والتطبيق الفعلي لما تعلمه الطلبة خلال دراستهم .
خامساً : إعادة النظر بالمناهج الدراسية وبما ينسجم والتطورات التي حصلت في العالم من جهة واحتياجات سوق العمل من جهة أخرى .
سادساً : اجراء دارسات ميدانية لمعرفة مدى حاجة سوق العمل للإختصاصات الموجودة حالياً في المعاهد وما هي الإختصاصات غير الموجود وسوق العمل بحاجة لها .
سابعاً : تخصيص الأموال اللازمة لترميم أبنية المعاهد ولاسيما القديمة منها ، وتجهيز ورشها ومختبراتها بالأجهزة الحديثة .
أ.د.ضياء واجد المهندس
مجلس الخبراء العراقي