المسافر والخيال ( 15 )
المسافر والخيال ( 15 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبعد كل ماحصل وجرى ، تقبلنا الواقع المفروض علينا ، لأنه ماباليد من حيلة ، وعلينا الإنصياع لمتطلبات المرحلة التي نعيشها بعد هدوء النفوس واطمئنانها نظرا لتحقيق الإتصال مع اهالينا ، ولكن هناك امر مهم في كيفية إشغال انفسنا للفترة القادمة ، فراح بعضنا إلى عمل جدول زيارات المناطق المهمة وفقا لما ابداه العمال المغاربة في الميناء ، فعملنا على زيارة الأماكن التي سبق وأن زرناها فيما مضى من الوقت ، ولكن أحدهم وجه الينا سؤالا محددا .. هل زرتم تمثال حورية البحر ؟ فكان جوابنا بالنفي ، وعندما سألناه عن موقعه أجابنا بأنه يقع في العاصمة كوبنهاغن ، وأفاد بأن هذا التمثال يعتبر رمزا مهما من رموز العاصمة ومعلما سياحيا يأمه جميع السياح ، فأدخلنا هذا التمثال ضمن زياراتنا القادمة ، ولكن أحد الأصدقاء اقترح أن تكون زيارتنا الثانية للعاصمة كوبنهاغن في اليوم اللاحق لعدة أسباب ، اهمها الحالة الجوية الملائمة للسفر وحسب اعلان النشرة الجوية المستلمة في السفينة ، ولربما الأيام القادمة الأخرى لاتصلح للسفر ، إذ ربما تكون الحالة الجوية تحول عن ذلك ، بالإضافة إلى أن العاصمة لاتبعد كثيرا عن هلسنكيور سوى ساعة واحدة باستخدام القطار ، وهكذا كان برنامجنا لليوم التالي السفر إلى العاصمة كوبنهاغن .
وفي اليوم التالي كانت عزيمتنا كما نويناها يوم امس ، إذ توجهنا إلى محطة قطار هلسنكيور قاصدين العاصمة ، ووصلنا إلى هناك ، وعند باب المحطة استأجرنا سيارة أجرة طالبين منه التوجه إلى مرفأ العاصمة حيث يوجد هناك تمثال حورية البحر .. وعند وصولنا إلى حيث نبغي وجدنا عشرات السياح المتجمهرين هناك ، وهم في شوق تام لأخذ الصور التذكارية امامه ، بل راح القليل منهم بالنزول إلى الماء متجهين نحو التمثال لأخذ الصور معه عن قرب ، إذ أنه لايبعد عن حافة المرفأ سوى أمتار قليلة ربما لاتتجاوز خمسين مترا ، ولكن بالنسبة لنا تفاجئنا بصغر ذلك التمثال إذ لايتجاوز إرتفاعه عن متر ونصف يقع على مجموعة من الصخور البحرية تعلوها صخرة كبيرة والتي يقع عليها ذلك التمثال ، وأنه لايستحق كل هذا الإهتمام ( من وجهة نظرنا ) ، وما سمعناه عنه إلا زوبعة في فنجان ، وهو عبارة عن تمثال لإمرأة صغير الحجم يطلق عليه بالإنجليزية ( The little Mermaid ) وفي اللغة الدانماركية يطلق عليه ( Den Lille Havfrae ) ويعود تأريخ إنشائه للعام 1913 ، وحسب تقديرنا أنه تمثال عادي لايستحق كل هذا الإهتمام ، ولكن بالتأكيد أنه من الأهمية بمكان لديهم هناك وربما كان لهم تعويذة ، أما من قبلنا فاعتبارنا بعدم أهميته ، يعود ذلك لأختلاف الثقافات مابيننا ، وإلا لما كان لهم كل هذا الإهتمام به ، ومع ذلك لم يمنع تقديرنا السلبي لهذا التمثال من أخذ بضعة صور تذكارية أمامه وبمواقع ولقطات متباينة ومختلفة طالما كان ذلك من المعالم المهمة في العاصمة ، ولم يستغرق وجودنا هناك أكثر من ساعة واحدة وهذا مادعانا لمغادرة المكان محاولين التجوال في شوارع العاصمة بغية تمضية الوقت وابتياع ماقد نراه مناسبا لنا عند مرورنا بالمحلات المنتشرة في تلك الشوارع ، وقد جلب انتباهنا احد البائعين المتجولين وهو يحمل بعضا من المنسوجات الصوفية السميكة المحاكة بالطريقة اليدوية التقليدية ( بلوزات ) ولكنها كانت ذات مواصفات متميزة وقد حيكت بمهارة عالية ، إلا أننا فوجئنا بغلاء اسعارها قياسا لبلادنا ، إذ كان ثمنها اكثر من مائة دولار ، وهو مبلغ ليس بقليل وفق ذلك الوقت ، وبالحقيقة كان اقتنائها شيء جميل لما سيضفيه هذا ( البلوز ) نوعا من الأناقة المتميزة عند لبسه ، فابتعنا لكل واحد منا قطعة واحدة ، وتمت تجربته في الشارع ، دون الأخذ بنظر الإعتبار ماسيقوله عنا بقية الناس ، لأننا مدركين أن المثل الشعبي ( حاج ليس له علاقة بحاج آخر ) ينطبق تماما هناك ، بعدها قررنا العودة إلى هلسنكيور . وهكذا مضى الوقت سريعا عند الساعة الواحدة ظهرا ، ونحن في تجوال مستمر ، استرحنا خلاله في احدى المقاهي لتناول القهوة ، بعدها تناولنا طعامنا في أحد المطاعم الذي تبين لنا أنه مطعم لبناني من خلال استقبالنا من قبل أحد العاملين فيه ، وبعد تناول غدائنا ، سخر أحدنا من رحلتنا هذه ، وعبر عنها ، باننا لو أخبرنا بها أحد المجانين لضحك علينا ، مما دعا احد الأصدقاء أن يعبر عن رأيه بأن المهم قد اطلعنا على معلم من معالمهم المهمة وحسب مايرتأونه ، بغض النظر عما إذا كان يعجبنا أم لم يعجبنا ذلك ، وتأكيدا لهذا الشأن ، هو أننا رأينا العشرات من قاصدينه وهذا يكفي حسب ما أظن .
وهكذا انتهت رحلتنا إلى العاصمة بعد دفعنا حساب المطعم والذي أبا صاحبه أن يأخذ حسابه إلا بعد أن رجوناه كثيرا ومدعين بأننا لن نعود اليه مرة ثانية في حالة امتناعه من أخذ الحساب ، وهذا تعبير جميل من قبله وقبلنا لابداء المودة فيما بيننا لمجرد أننا نتكلم لغة واحدة بعيدا كل الإعتبارات الأخرى … يتبع
ســــــــــعد عبدالوهاب طه