البيروقراطية والناس

البيروقراطية والناس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل أيام مرت ذكرى وفاة زميلي وصديقي العزيز ( خ ج ) , كان عسكريا مائزا , دمث الأخلاق , راقي الطباع , متفانيا في عمله , محبوبا من قبل زملائه مثلما هو يحبهم , ربما كان يقترب من المثالية في حياته واسلوب تعامله مع الآخرين , ولا يـُشـْكل عليه سوى تذمره من الذين يصرون على الإلتزام بالأمور الخاطئة فتراه دائم القول .. اسمح لكل شيء إلا ان يدوس احدهم على صدري .
قبل عام من وفاته , كنت جالسا معه وأنا أشيد بنبل خصاله , أجابني حينها .. وهل تعتقد أني كذلك ؟ فأنا أنسان لي محاسني ولي مساوئي , ولربما هناك عمل لي هنا وهناك احسبه أني مصيب به من وجهة نظري , ولكن ليس كذلك فيما يراه الآخرون , حالي حال بقية البشر , هناك اعمال كثر مارستها , ربما رأيت فيها صوابا بتقديري وربما كنت مخطئا فيها بنظر الآخرين , اذكر منها عملاً , مارسته اضطرارا ومتحديا روتين عمل اصطنعه من كان لي حاجة عنده , لا لشيء وانما اخذت به تحديا لبيروقراطية مقيتة .
كنت اسكن دارا عسكرية مجاورا لزملاء المهنة , واتوق في الحصول على خط هاتف ارضي , اذ وكما تعلم , لم نعرف المحمول في حينها فقدمت طلباً الى دائرة البريد للحصول على هاتف , فلما رآني الموظف المسؤول عن تسلم الطلبات ببزتي العسكرية , أوضح لي أنه علي جلب كتاب يؤيد أني عسكري , فكان له ماطلب بعد عدة ايام , حينها أجابني , بأن هذا التأييد ينقصه تأييد رسمي من أن عملي في الجبهة ومشارك في القتال الدائر حينها , فكان له ما اراد بعد عدة أيام أخر , إلا أنه لم يتم تنفيذ طلبي ولمدة طويلة , وفي كل مرة يتم نصب هاتف إلى أحد الجيران اذهب الى الدائرة المسؤولة عن نصب الهواتف , ليأتي الجواب بعدم وجود خطوط شاغرة , مما ادى إلى فقد صوابي وأنا ادخل على المدير عارضا له مشكلتي مرتديا بزتي العسكرية , فلم يكترث المدير لوجودي في مكتبه , بل كلمني من غير ان يكلف نفسه حتى بالنظر لي متحججا بتمشية البريد الذي أمامه ومجيبا بأن علي الانتظار لحين تحسن موقف الخطوط , حينها ثارت ثائرتي وانا اسرد عليه أشكالية توالي نصب الهواتف إلى جيراني , ولم يجد صعوبة في الرد علي , إذ قال لي بأن ذلك ما هو إلا عملية نقل خطوط من مساكنهم القديمة , هنا طفح الكيل وبلغ الزبى وأنا أجيبه بأن عليه النظر لي اولاً إن لم يكن ذلك متعبا له , فلم يتوان في رفع بصره بمقت وهو ينظر لي من خلال نظارتيه ليستمع الى كلماتي اللاذعة , وانا اقول له بأن هذا الكلام غير صحيح , من اين لهم هنا مساكن وجلهم من المحافظات؟ ولم يكن لهم حتى أقارب هنا , أليس هناك تهميش لأناس دون غيرهم ؟
فاستدرك كلامي معقبا ؛ أن ذلك يتطلب تحقيقا ان صحت أقوالي , فلم ابخل بالرد عليه وقلت له , إذن لماذا أنا هنا أمامك ؟ جئت اليك للتحقيق وإن لم تفعل , فسوف ارفع شكواي الى المراجع وحتى الى ارفع المستويات إن تطلب الأمر ذلك , وأنت تعلم جيدا بأننا نصل الى ما نبغي , فلم اره الا أن يحمر وجهه وتتطاير منه موجات نارية وهو يطلب مني الجلوس ويأمر لي بكاس شاي قائلاً , يا أخي لا تصدق أن هناك أتعس من هذا الكرسي الذي أجلس عليه ( قال ذلك وهو يشير الى كرسيه الجالس عليه ) إذ ان الوساطات تأتي من ارفع المستويات , فتراني لا أدخر وسعا إلا لتنفيذها , وأضاف معقبا , تعال لي مرة اخرى يوم الأربعاء القادم , وليكن الأمر خيرا , ولم اكذب خبرا عندما راجعته في اليوم المحدد لأجده قد خصص لي رقما هاتفيا وتم اتخاذ الإجراءات اللازمة في السلسلة الإدارية والفنية لهذا الأمر , وجيء بالهاتف وتم نصبه في استراحة الدار بدون حرارة , ومرت ثلاثة ايام والحال كما هو , مما اضطرني وانا في دائرتي العسكرية أن أطلب ملاحظ البدالة هاتفيا , واخبرته بالأمر ليجيبني بأن علي الأنتظار شهرا كاملا لهذا الامر , وتساءلت هل يستوجب ذلك شهرا كاملا ؟ فأجابني بالأيجاب , هنا لم ادخر جهدا لنبذ ذلك الإجراء وليستشيظ غضبي وانا اقول له ..
ــ هل لديك قلم ؟
ــ ولم َ هذا السؤال ؟
ــ قد تحتاجه , وأنا متأكد بان القلم بين يديك , سجل عندك , رتبتي كذا , واسمي كذا , ومعسكري كذا … هل كتبت ؟ اعلم بانه لديك ساعتين من الآن لتأتي الحرارة لهاتفي , وبخلاف ذلك فمن الأفضل لك ان لاتبقى في دائرتك لأني ساحرقك فيها .
وقد اغلقت سماعة الهاتف بعدها على الفور ولأنتظر ساعتان وأتصل على رقم هذا الهاتف المخصص لي , ليرن وتكون على الطرف الآخر زوجتي .
واردف قائلا .. اتذكر ذلك جيدا وانا نادم لتصرفي هذا والذي كنت مجبرا عليه متحديا بيروقراطية العمل وروتينه اللذين غالبا مايكونان مصطنعين لغايات دنيئة كالحصول على رشا او ماشابه ذلك .
استذكرت تلك المجريات هذا اليوم لهذا الصديق العصامي رحمه الله برحمته واسكنه فسيح جناته وقد ساءلت نفسي , لو كانت مجريات الأمور وفق المتطلبات الصحيحة , هل تجرأ صاحبي لانتهاج هذا المسلك وانتهاك حرمة عمل تلك الدائرة , والذي اعترف هو بنفسه على سلبيته وندمه عليه ؟ بالتأكيد الجواب لكم .

ســــــــــعد عبدالوهاب طه