بمناسبة تقديم عرض (ميت مات) اعيد نشر مقالة سابقة كتبتها عن هذا العرض
بمناسبة تقديم عرض (ميت مات) اعيد نشر مقالة سابقة كتبتها عن هذا العرض
================، استاذ حيدر عبدالله
التناظر والتماثل الفني والفكري في عرض مسرحية ( ميت مات )
حيدر عبدالله الشطري
دائما ما يسعى العمل الفني المسرحي الى تأكيد ان الدراما تجربة معرفية دائما ما تتعرض لحياة الإنسان وآلامه وآماله وتطلعاته بتناول اشكال القهر والظلم والعبودية التي يتعرض لها , ويبتنى ذلك بتكريس التصارع بين شخصيات وقوى متعددة تسعى الى مصائرها في حياة افتراضية قائمة بين الواقع والخيال، وهي في اغلب الاحايين اعادة انتاج جديدة لصور حياتية ماثلة , وكل ذلك يقام على اساس شكل درامي يتنامى بصورة منطقية ومتسلسلة ومن خلال نسق بنائي محكم وقد خضع هذا البناء الهندسي الدرامي الى تغييرات وتحديثات كبيرة نتيجة تطور الحياة الانسانية وحركة التاريخ وحدوث التحولات الفكرية التي زادت من تعقيدات الحياة الانسانية .
وكان لهذه التغييرات الاثر الكبير في تعدد الاساليب المختلفة والطرق المبتكرة في اجتراح بناءات درامية تكرس خصوصيات الكتاب المسرحيين في التناولات والمعالجات والاشتغالات واصبح ذلك ما يميز الكاتب المسرحي عن الاخر .
ويعد الكاتب المسرحي علي عبدالنبي الزيدي واحدا من هؤلاء الكتاب المسرحيين الذي تتصف نصوصهم المسرحية بخصوصية بنائية تعتمد على اساليب فنية مبتكرة تسعى دائما لتأكيد فرادتها في اختيار موضوعاتها وبالتالي تناولها بطرق جديدة وحديثة .
ونص مسرحية ( ميت مات ) واحد من هذه النصوص الذي تتميز بهندسة بنائية فنية وفكرية تعتمد على عناصر تكوينية في مستوى الشكل الفني ( المنظر المسرحي الواحد ) ومن ثم تتحول الى ادوات بنائية تفيد المعنى المضمر والظاهر في النص المسرحي (اللغة المسرحية ).
وقد سعى صانع العرض ( الدراماتورج ) الى تكريس ذلك من خلال الاعتماد على اسلوبي
( التناظر والتماثل ) الفني الذي يبدأ باللغة المسرحية باعتبارها الاداة المثالية وبوصفها انعكاسا لحالات مثالية ومتوازنة في تركيب الاحداث والافعال المسرحية ثم ينتقل الى سينوغرافيا العرض وتنويع مكوناته وتحقيق صفة التناغم والتوازن بين اجزاءه.
وكان هذان المفهومان والاشتغال وفق التنوع الدلالي لوظيفتيهما هما العاملان الاساسيان اللذين اعتمد عليهما (دراماتورج ) العرض وكاتبه علي عبدالنبي الزيدي في كتابة نصه وتنفيذه على الخشبة وبذلك يقف هذان المفهومان وراء كل الانماط والاساليب التي اعتمد عليهما النص والعرض المسرحي باعتبارهما يساهمان في التعبير عن ديناميكية الفعل وتأكيده وتكريسه .
فيبدأ العرض بوجود مصطبتان على جانبي المسرح يكون توزيعهما بصورة متناظرة وكأنهما مصطبة واحدة قد انقسمت الى اثنين لاسيما وان كل الذي سوف يحدث فوقهما هو فعل تكراري متماثل بين شخصيتي العرض ( مولاي ,غودو ) والذي يشير النص ايضا الى ان عمر كل منهما الف سنة .
تبدأ مسيرة الشخصيتان في هذه الرحلة الساكنة بتماثل المعاناة التي تنطلق من الاول بلغة الـ (يـــاه ) ليكون تعبير الاخر بـ ( يووووووه ) وكلا التعبيرين مختلفين في التركيب ومنسجمين ومتماثلين في المعنى وحيث يتبين ان كليهما يفهم لغة الاخر بصعوبة ومن هنا تبدأ اولى معالم التماثل والتناظر بين الشخصيتين والتي تبدوان بانهما لا تعرفان بعضهما وان الذي ايقظهما هو شخص آخر لم يشعرا به ولكنهما يعرفان انهم ينتظرانه ( منذذذذذ ) نفس المدة التي مرت على عمريهما الطويلين والذي لا يمكن ان يسير بدون ان يتعاطيا نفس الدواء ( حبة الاسبرين ) لكي يمدّا في حياتيهما , ولكي يعبر المؤلف عن الم واحد يعانون منه ويعبرون عنه وكان هذه المرة بتعبير الـ ( ااااااخ ) المشتركة بينهما, ثم انهما يتماثلان برغبة السؤال لكل منهما ومنذ الف عام عن معرفة سبب وجودهما معا ( لماذا انت بجانبي…؟ ) ثم تتكرر وتتفرع الاسئلة المتماثلة بينهما الى (ما الذي يجعلك تجلسُ على هذه المصطبة منذ ألفِ عامٍ وأكثر؟ ) وليتبين الجواب فيما بعد وضمن سياق النص انهما ايضا يشتركان بـ (انتظار الحبيب) والذي يتفقان على انه (لابد ) ان يأتي .
ويسير النص بتأكيد مفهوم التماثل والتناظر بين الشخصيتين وتعدد ذلك بصور واشكال مشتركة بينهما حيث يتبين انهما ايضا يتناولان دواء آخر هو ( دواء السعال ) ويتفقان على ان كل منهما ( اكبر سناً ) من الاخر وان ثوبيهما قد تحولا الى ( خرقة او كانت تسمى ثوبا ) .
ثم ينتقلان في رحلتهما التماثلية الى تأكيد انهما قد كتبا الى المنتظَر ( رسالة ) الاول اراد منه ان يأتي لكي ( يعطي معنى جديدا للحب ) والاخر اراد منه ان يأتي لكي ( يعطي معنى جديدا للدماء ) حتى يتقابل امامنا الحب والدم والذي اراد المؤلف ان يكرس معنى واحدا لكليهما.
ثم ينعطف البناء الدرامي للنص المسرحي عندما يتبين ان (هو2) ( ينتظر رجل مهم يدعى غودو, وانه ( ليس وحده من ينتظره بل هناك الكثير خلف المصاطب ينتظرونه) والذي يتبين فيما بعد انه (هو1 ) , وان ( هو1) ( ينتظر رجل مهم يدعى مولاي , وانه ليس وحده من ينتظره بل هناك الكثير خلف المصاطب ينتظرونه ) والذي يتبين انه فيما بعد انه ( هو2 ) وبعد ان يعرف كل منهما الاخر يعاتبان بعضيهما (كان عليك أن تسألني بدلاً من ألفِ سنةٍ ضائعةٍ وأكثر! ) ويتفقان على انهما ( ينتظران منتظَرا لم يغب ) وهكذا يتحقق التماثل التام بالفعل والابعاد والسلوك بين الشخصيتين (هو1 ) و(هو2 ) واللذان لا يختلفان الا بأسمائهما حتى يبدوان وكأنهما شخصية واحدة منشطرة الى شخصيتين متناظرتين حتى انهما يتفقان في طريقة النظر الى الناس الذين ينتظرونهم فكل منهما يقول للآخر ( انظر بشوقِك، بلهفتِك للحبيبِ وستراهم روحك بوضوح ) ثم يتفقان مرة اخرى على ( حمقهما ) المشترك ( بالانتظار منذ الف عام واكثر ) , ويشير النص على انهما قد حاولا الوقوف على رجليهما ( منذ قرون ) ولكنهما لم ينجحا في ذلك واعتبار هذه المحاولة من قِبلهما ( تجربة فاشلة ) وكانت تلك اشارة من الكاتب الى محاولتهما الى تغيير حالة السكون التي يعيشانها.
ويتبين بعد ذلك انهما يشتركان في امنياتهما بان ( يأتي المنتظَر) وان كل منهما كان ( يغار ) على الاخر فالأول يغار على الثاني من ( النوم ) والثاني يغار على الاول من ( الوسادة ) وهو بذلك يصور لغيرة متماثلة في اشياء كثيرة بينهما .
وفي اشارة واضحة يبين النص ان كليهما ( سجين زنزانة الاخر ) وان سجانهما هو ( الخوف ) لانهما قد ( خلقا بجناحين مكسورين ) في احالة الى ( خيبتهما ) ودلالة على تكافؤ وقوع فعل الانتظار عليهما .
وان كليهما كان يُقسم ( بكسر الهاء ) باسم الاخر , وان كل منهما ( يرى ) نفسه الاخر
ويتماثلان ايضا في امنية كل منهما في احتواء الاخر فالأول يتمنى( من فرطِ خوفي عليك يا سيدي كنت أريدُ أن أحبلَ بك ) والثاني تكمن امنيته في ( ومن فرط شوقي إليك تمنيتكَ وريداً في قلبي ) .
ثم يتفق البطلان المتماثلان على ان ( الصمت يحكي عنهم ) في الوقت الذي يعرفون فيه ان
( الغياب لم يحدث ) في اشارة الى انه لن يحدث ايضا على المدى القريب.
وكان كل منهم يحتفظ بـ ( صورة ) للآخر كان قد تخيل شكله فيها والتي سعى العرض على اظهارها بدون شكل انساني وكانت مجرد برواز لصورة لم تكن موجودة.
ثم يقابلان الشكل المتماثل في المعنى لانتظارهما, فالأول كان ينتظر بالشكل التالي (لقد ملّت أصابع يدي من عدِّ مئات السنوات بانتظارك البهي ، أعدُ وأعدُ وأعدُ ، حتى حسبت بأنني أحمل قضبان زنزانتي في يدي بدلاً من أصابعي ) اما الثاني فقد كان ينتظر بذلك الشكل (وانتظرتك بشعرٍ طويلٍ فاحمٍ السواد، وانتظرتك بعد أن اشتعلَ البياض في قلبي، وانتظرتك وهو يسّاقط مني الواحدة بعد الأخرى، وانتظرتك برأسٍ لا شيء فيه الآن سوى.. الخيبة ).
والاول يرى انه لو ( كان عليك فقط ان التفتَّ لي وتعرفني وتنتهي هذه المهزلة ) اما الثاني فيرى (كان عليك أن تلتفتَ وتعرفني وتنتهي هذه الفوضى ) حيث يتم التناظر المترادف للفوضى والمهزلة التي يؤكد عليها النص في لا جدوى الانتظار المرير .
ثم يرى كل منهما ان السؤال عن سبب انتظاره للآخر هو ( سؤال مروع ) وان عند كل منهما (عِندك.. أن تأخذَ بيدي وتجعلني أقفُ على قدميَّ بدلاً من الجلوسِ على هذه المصطبة لألفِ عامٍ وأكثر ) .
ويكرس النص مفهومي التناظر والتماثل الاخرى بين الشخصيتين على مستوى الشكل والدلالة ويؤكد انهما يتقفان على ان جلوس كل منهما بمحل الاخر هو ( فكرة ثورية ), ويعتقد كل منهما ان الاخر ( مخلصا) ,وان كل منهما انتظر قبل الاخر فيقول (هو1)( انتظرتك قبلك بحسب شوقي ) ليؤكد (هو2) ذلك بقوله ( انتظرتك قبلك بحسب لهفتي )
ثم يتبين لنا ان كلا منهما كان ( يتصل ) على الاخر وانهما يعتذران لبعضهما بـ( رقمُ هاتفِك غير مسجلٍ في موبايلي ) وان عذر كليهما ( بارد ) ثم يصلان الى نتيجة انه لو ردا على بعضهما ( لتوقف الانتظار ) عند الاول اما عند الثاني ( لضاعت مئات السنين ) ويعرفان ان
( لا ينفع اللوم ) بعد ذلك حيث يقابل الكاتب الانتظار بضياع السنين .
ثم يطلب احدهما من الاخر ( انقاذه …لكنه لم يأتي ) لأنه ( في الاصل حاضر ) , وتأكيداً لكل ما تقدم فأن النص يبين ان كل منهما يملك كيسا يحوي ( ادوية وخبز يابس ) وانهما يتفقان على ان ( يخلص ) كل مهما الاخر وان ( البشرية ) التي ورائهم هم ربما يكونوا ( منقذين وينتظرون منقذين ) وانهم ( خطيه )….!
ثم يحاولان الوقوف وان كلاهما (يحاول النهوض، يتوجع بشدة ، ولكنه ينهض، ينظر لتفاصيل جسمه باستغراب وفرح، يتحرك بصعوبة وهو سعيد جداً)
ثم واخيرا وبعد ان يصلا الى درجة اليأس يتفقان على ( الموت ) ليخلصا البشرية من ( ورطة) الانتظار بعد ان يعرف الاول ان ( (انتظاري لك وسط هذه الفوضى ) والثاني (انتظاري لك وسط هذه المهزلة ) ليجتهد كاتب النص بعد ذلك بتعريف الفوضى والمهزلة التي عاشها البطلين خلال سكونهما الطويل الذي امتد الى قرون .
وهكذا يخلص الكاتب في محاولة اقناع القارئ وبالتالي المشاهد الى رؤيته الجديدة لفكرة الانتظار والتي ينظر اليها من زاوية حادة وخاصة وقد اختار لذلك الاسلوب الأنجع والاكثر ملائمة وهو الاعتماد على مفهومي التناظر والتماثل اللذان شكلا اسلوبا متفرداً في اجتراح طريقة مثلى في التناول والمعالجة والتقديم .