التطيـّر

التطيـّر
ـــــــــــ
سبق أن تكلمنا عن التشاؤم الناتج عن حالات أو أحداث معينة كما تظهر للناظر إليها والمتعايش معها نتيجة ترقب وتوجس من أمور انعكاسية لتلك الأحداث ، مثل نعيق الغراب ورؤية البومة ، إلا أن هناك نوعا آخر من التشاؤم الذي يسبقه عمل معين والنتائج المتحققة بسببه تحدد ما إذا كان هناك خير أو شر في الإنتظار ، وهذا مايطلق عليه بالتطيـّر ، الذي ينشأ من مخاوف أحداث المستقبل القريب المجهول ، والتحسب في وقوع أحداث غير متوقعة مفاجئة أو الترقب في حلول الكوارث ، وقد يكون بسبب شيء مرئي أو مسموع أو أرقام محددة أو اسم وربما يكون يوم أو شهر ، وعلى الرغم من أنه ليس هناك إختلاف جوهري بين التشاؤم والتطير ، إلا أن التطير يسبقه عمل معين لإستكشاف المستقبل كما سنرى بعكس التشاؤم الذي يكون معروفا سلفا لشيء متعارف عليه . لايعرف كيفية نشوء التطير لكن من المرجح أن يكون قد تولد منذ أزمان بعيدة لم يتم تسجيلها تأريخيا ، إلا أن ماوصل إلينا كأدنى حد هو مامر من أحداث في زمن الجاهلية ، مفاده أنه إذا ما أراد أحدهم من الإقدام على عمل ما ، فإنه يذهب إلى عش أحد الطيور محاولا بتعمد على إثارة الطير وهو بعشه لكي يطير ، فإذا ماطار ذلك الطير بخط سير على يمينه فهذا مرده أن يقدم على ذلك العمل وأن الخير أمامه ، أما إذا كان خط سير طيران ذلك الطير على شماله ، فهذا معناه نذير شؤم وأن أمامه خطر محدق به إذا ما أقدم على ذلك العمل ، ولكن الغريب في الأمر طريقة التقدم بإتجاه عش الطير ، فلو أن هذا اليوم جاء أحدهم إلى عش الطير بإتجاه الشمال وهرع ذلك الطير بالطيران على يمينه ، وفي اليوم التالي جاء شخص آخر إلى نفس العش ولكن باتجاه الجنوب ، وتعمد باثارة ذلك الطير من عشه ، وبالفعل طار على شماله ، فكيف تكون النتيجة ، أي أن الطير يطير بنفس الإتجاه ولكن موقع الشخص قد تغير ، ففي الأولى طار على يمينه وفي الثانية طار على شماله وهو نفس الطير وهو يطير باتجاه واحد ، أليست هذه مفارقة وهم يعتمدون عليها في الخير والشر ، إذن هنا كيف يتم تحكيم الأمر ؟و هناك طريقة أخرى غريبة في مضمونها وشكلها ، هي أنه إذا ما أراد أحدهم في الإقدام على عمل ما ، فإنه يضع في كنانته عدد من السهام وقد كتب على بعضها ( أمرني ربي ) والأخرى كتب عليها ( نهاني ربي ) ، ثم يبدأ برمي السهام على هدف معين فإن أصابه بأحدها ، هنا ماعليه إلا أن يذهب ليقرأ ما قد كتب عليه ، هل أمرني ربي أو نهاني ربي ، وعليه الإنصياع لما يقرأ وإلا فإنه يقع بالمحظور وفق حساباته أو كما يظنها ، ولو رجعنا إلى التأريخ فلم تسجل خلاله حالة تطير إلا قبل مايقرب من الفي سنة من خلال الرقم ( 13 ) وهو عدد تلاميذ السيد المسيح ( ع ) في حادثة العشاء الأخير والتي إنتهت بنهاية السيد المسيح ( ع ) ، ومن هنا كان الرقم ( 13 ) نذير شؤم ، وذهب الناس ان لايكون يوم تسجيل تولدات مواليدهم يوم 13 من أي شهر ، وإذا ماكانت هناك عملية جراحية ، فمن غير المحبذ إجراؤها يوم 13 من أي شهر ، وذهبت الفنادق في أرجاء العالم كافة أن يتم ترقيم الغرف بعيدا عن الرقم 13 وتفاديا لذلك تجد أرقام غرف الفنادق مرقمة حسب الطوابق التي تبدأ بالرقم 100 للطابق الأول و 200 للطابق الثاني وهكذا دواليك ، ولكن لا أدري مالذي رآه سيدنا آدم ( ع ) ومالذي رأته أمنا حواء ( ع ) ليستقبلا نبأ أول جريمة حدثت في التأريخ بعد خروجهما من الجنة إلى الأرض ، ألا وهو مصرع ابنهما هابيل ؟ إذن الأمر بعيد عن هذا الإعتقاد وإنها محض خرافة الظنون بكل تأكيد ، ويختلف التطير من مكان إلى آخر وحسب طبيعة المناطق والمجتمعات وعلى مر الأزمنة ، ففي أفريقيا مثلا ، إذا مانوى أحدهم في الإقدام على عمل معين ، فإن ذلك يعتمد على مايشاهده لحظة خروجه من باب البيت ، فإذا مارأى شخصا بلباس أبيض أو شخصا يحبه ، فهذا مامعناه الخير كله في انتظاره والعكس صحيح ، بينما في اليابان فأن التطير يكون من خلال الرقمين ( 4 ) و ( 666 ) وفي بعض دول آسيا فإنهم يتطيرون من الرقم ( 7 ) ، وبعد أحداث الهجوم على برجي التجارة العالمي في الولايات المتحدة الأميركية في 11 أيلول كان التطير من الرقم 11 له مؤشره والذي سبق وأن كان لحادث مقتل الرئيس الأميركي جون كندي في شهر 11 من العام 1963 ، ولكن هل يؤمن كل الناس في هذا التطير أم هناك إختلاف مابين هذا وذاك ، الأديب وعملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد كان يتحدى مثل هذه الأمور تحديا اشتهر به مابين الناس ، ليؤكد أن تلك الإعتقادات وليدة جهلهم لما يجري من أحداث ، فتراه قد وضع على مكتبه تمثالا صغيرا لبومة وعلى حد تعبيره فإنه يتفائل كثيرا بها ، وهو دائم التندر من أؤلئك الذين ينسجون في مخيلاتهم أمور التوجس والريبة من أمر البومة ، فهو يقول في وصف البومة بأنها طائر وديع ليس هناك مايستوجب كراهيته ، وحقيقة الأمر أن للبومة من صفات الوداعة الشيء الكثير فهي ليست لها من مكر ولا خبث ، ولاتزاحم البشر في قوتهم ولا تعبث بممتلكاتهم أو مزروعاتهم ، لهذه الأسباب فإن عباس محمود العقاد لايراها مكروهة ولايظن أن هناك من ورائها كارثة مرتقبة ، ويذهب بالتحدي في أمور غريبة ، فعندما شرع بكتابة كتابه عن ابن الرومي حذروه من مغبة فعله هذا ، لأن كل من سعى بهذا الإتجاه أي الكتابة عن أبن الرومي لم يسلم من مصيبة أو كارثة متناسين أن قدر الله أكبر من أي توجس أو اعتقاد سلبي الإتجاه ، فهم في إدراك تام من الإعتقاد بظنهم السيء لمجريات أحداث وليدة المصادفة وليس لها من ركائز تنم عن حقيقة ، فذهبوا في اعتقادهم بأن جميع من ساهم بشرح أو طبع أو أنفق على طبع ديوان أبن الرومي أصابتهم كوارث ، فوزير المعارف حشمت باشا عندما أوصى بطبع ديوان أبن الرومي ؛ سقطت الوزارة ومات الشيخ شريف الذي يشرف على طبع الديوان ، والمازني عندما همً بنسخ قصائده من دار الكتب المصرية ، عثر وكسرت ساقه ، وعندما بدأ كامل الكيلاني بطبع مختارت من شعر أبن الرومي ، مات أبوه وأصيب بعدها بنكبة تجارية وهنا قد يسأل سائل ، هل كان الموت يبتعد عن أبيه فيما إذا لم يبدأ عمله بطبع تلك المختارات ؟ ولم يكترث عباس