ترميم الذاكرة
ترميم الذاكرة.. برحيق التذكر …ونبل الافكار وسموها…
بقلم .د.سلامة الصالحي
شاعرة واديبة عراقية .. بغداد
حسن مدن كاتب بحريني …مارس العمل الصحفي والسياسي ..ومهتم بالكتابة …في النقد والتحليل السياسي ..حاصل على شهادة الدكتورا من معهد الاستشراق في موسكو…في العلوم السياسية …عاش في المنفى وعاد الى وطنه البحرين بعد ستة وعشرين سنة..
الذاكرة جينوم ونص الانسان الباقي معه بعد غياب الزمان والمكان…هي المأخوذة مقايضة من العمر العابر والمنفلت …في هلام الوجود وعماء هذا الاتساع الشاسع حولنا… هي الخزانة السرية التي لايستطيع ان يسطو عليها أحد…وتكاد تكون هي الشيء الوحيد الذي نملكه …هي المهد الذي يبدأ به الانسان طفولته وبراءته…وهي مكتبته الخاصة وملفات زمنه وسنينه التي يستأمنها …على كل شيء في زمن ساد به اللاأمان.. وهذه الذاكرة حين تسجل احداث بعمق أنساني واستثنائي ..وبشرف هذه الانسانية المصان…تكون لها قيمتها المعنوية ورفعتها واحترامها…تبدو ثمينة جدا وحريصة على مكتنزاتها من الاحزان والمسرات والدهشات…التي طوتها في اركانها الاثيرية…وخضعت هذا الخضم من الاحداث في مراجل التصفية والتأمل… تماما كما يصفي الصائغ ماء الذهب …فيبقي لنا مايشد النظر الى ذلك البريق الاخاذ من نبالة الافكار وسموها…لتظل هذه البروق حية تتجدد…لايهترأها زمن ولا يتلفها مكان…في كتابه الأثير …ترميم الذكرة …يستدعي حسن مدن هذه الذاكرة المكتنزة بسبائك الاحداث ولؤلؤات المواجهة …فيمنح لانسانيتنا هذه الحلة الرائعة من الافكار التي سننتقيها لتظل معنا …تجمل وعينا وتواسي متاعبنا….هذا الكاتب يأخذ قارئه بدهشة اطفال غرباء …الى سماوات وغابات وأن كانت حزينة وموحشة لكنه قادر أن يسعدك ويحفر في ذاتك التساؤلات… ويحفز وعيك…يبدأ حسن مدن كتابه…بقول حزين وعميق الى مريد البرغوثي .. اتعبتني يادورة المفتاح في الباب الذي ماخلفه أحد…وثيمة الباب هنا تعني أشياء كثيرة …هي باب البيت في غربة بعيدة عن الاهل والوطن …وهي باب الوطن المغلق بوجهه…هي الواجهة التي تقف خلفها الحكايات والاسرار…وغربة الروح ….ولم يكن هذا الباب …سنينا طويلة …خلفه أحد…او بأنتظاره احد سوى قلب موجوع يسكن في المكان الذي أسمه الوطن …..أم تنتظر ان يطرق بابها فترى وجه حبيبها الذي فارقته…فتموت الام بحسرة ذلك الحلم يلحقها الاب الذي ماعاد له قميص أبنه ليرد له مسراته… وبلغة انيقة وقلم رشيق…يأخذ حسن مدن قارئه الى نوع من الفلسفة والحوار والسرد الذي يجعلك جزء من النص …ومتعايش مع أحداثه …وتجوب معه المكانات التي افتقدها بعد ان يصف لك بروح عذبة …روعة ذلك المكان…كأنه يتحدث اليك عن حدث مشترك عشتاه معا…مادا اليك خيوط سحرية لشبكة من الذكريات التي تخصك انت وتستفز ذاكرتك …كبشر في منطقة واحدة …ومعاناة ذاتها… توزعت علينا بالتساوي ….فتفرح معه وانت تعبر جداول عذاري وتبكي معه بحرقة الموجوع من الفقد الذي توالى عليه …وعليك ايضا…يأخذك الى عالمه الممزق في صباه الأول وغربته المبكرة …لتدخل دون خوف الى روحه النقية… وهو يقف بشموخ وكبرياء أمام كل تلك الصعاب والمحن التي واجهها بروح زاهدة ومتقشفة …يسكنها حلم وهم انساني يعرف فرسانه …فيبحث عنهم …ويستوطن رؤوسهم…لكن عيون عذاري تحمل الماء وتمر بالجداول …ولا يأخذ منها حسن الصغير الا ذكرى ولوعة …حين يجدها وقد تحولت الى حكاية من حكايا الجن …تلك التي درج الناس على وصمها بالجفاء فهي لاتنفع اهلها وتعطي لغيرهم مائها…واحات النخل …سطح الدار …مراقبة النجوم …والقمر الوردي …تلك كانت بداية الاسئلة وبداية المأزق …حيث تسللت الى البيت…بواعث الجمال وانيس الوحشات…الكتب… التي عشقها منذ صباه وبدأ القراءة ورحلة الوعي المبكر الجميل ..فكان حريصا على هذا الوعي وصيانته …ضاعت في غفلة منه …احلام الدروب وساحات المدارس ليجد …نفسه أسير رحلة بدأت ..ولايدري متى ستنتهي وهو يوزع سنينه في المدن العربية من القاهرة التي تركها مكرها …الى بغداد التي عاش فيها سنة الى بيروت وفواجعها وجمالها الى دمشق …ثم الى صقيع موسكو …بعدها استقر به الحال في دفء الشارقة …وحضن الامارات الرؤوم ليعود بعدها الى وطن الاجداد والاهل …كبيرا …يواجه انحسار المكان وانكماش الدروب …وتجاعيد البيت التي جعلته يبدو أصغر مما تركه …المكانات تشيخ وتضمحل وتنكمش ..مثل اجسادنا …فهي ضحية الزمن وشيخوخة الوجود….ليتسائل ..أين ذاك الصبي الذي غادر هو واسئلته …الذي لايكف عن طرح الاسئلة على من حوله وعلى ذاته …وزمنه…باحثا عن العدالة والمساواة والسلام….تلك الاسئلة التي قادته الى المنافي والهجرة الجبرية …وتغريبة …صقلت فيه الافكار وعمقت نظرته للوجود والانسان…تخلل هذا النفي القسري…فقدانات كثيرة ولوعات غياب …تمنعت بخجل النبلاء ان تظهر للقاريء عمقها فأحسها …وتشبع بها …وصارت ضمن لوعاته …وأوجاعه….وبعد ان أشتعل القلب بياضا…أعلنت الساعة …بدء جديد وعودة جديدة.. ..هذا المنجز الذي كتبه حسن مدن …بسرده الانيق وبلغة السهل الممتنع العميقة …حاملا ماء المعرفة ليسقي وعي القاريء …فتنبت برأسه افكارا جديدة …والافكار تحبل وتلد …بعد ان يلقحها عارف ومارد جاب صولة الكون وعاد لنا بسلة الاسئلة الجديدة والحكايات الصعبة وهي تتمرغ على جمر الانتظار ورجاء العودة ..لتستوي رغيفا ابداعيا ساخنا …ولذيذا
يقول حسن مدن عن الوطن …اي كان البيت او المكان الاكبر ….
اذا فقدنا المكان طويلا خاصة اذا كان وطنا او حتى مجرد مسقط رأس…فانه يتحول الى حلم …الى اسطورة…الى فردوس مشتهى…مبتغى…بحيث ان الصورة الحقيقية للمكان….المفتقد.. تصغر امام صورة الحلم…الذي كوناه عنه…او من وحيه…لكن كيف يعجز المرء عن وصف….او مدح المكان…الذي يحبه…حين يكون داخله…كيف لايستطيع أختبار علاقته…بهذا المكان …الاحين يبعد عنه طوعا او كرها..
هكذا يسترسل بتأملاته عن المكان المفقود بفلسفة شيقة …وتأمل عميق كأنه يكتب من اعماق سحيقة في الروح أخذت مداها الزمني الطويل حتى وصلت الينأ فادهشتنا وأحتفينا بها…تلك ذاكرة الوجوه والمكان الذي علق بروحه…هي فلسفة الروح المعذبة والمسكونة بالتساؤلات الكبرى..والوعي المبكر الذي ميزه عن أقرانه…الى محنة حملها هذا الوعي معه…
اللغة العالية المتقنة المكثفة التي كتب بها حسن مدن سيرته…تجعلك تعيد ماتقرأ لتروي ذاك العطش الغائر فيك…الى لغة أهم مايميزها فخامة الصدق وعذوبة الروح…ويشدك دون أن تدري الى موجة حنين غامض. …يجعلك تود ان تحفظ مرويات هذا الكتاب…الذي تخفت فيه ذكرياتك أنت …ولواعجك وفقداناتك…انت ايضا….الى زمن ومكان …غاب في غفلة من الزمن تحت ظل الاسمنت وجرافات العصر القاسية .. ومثل اي حكيم تربى في أحضان الحياة وتلقفته ربة الابداع…يسرد لك بأسترخاء العارفين
مارأى وماحصل…ويحلل ذاته وذاتك …فتكتشف ذاتك معه. …ويرسل أشارات الوعي لك …بتواضع …الحكماء …الكاتب الذي يدهشك ويقنعك بصدقه …ويجعل شعر جلدك مقشعرا….لجلالة الحدث .كأنك كنت معه …وسائرا في دروب عذاباته وقوة الامل وارادة التحدي التي اعتصم بها….تؤنبك بذات الوقت …كيف صمت عن ماجرى له او لغيره ممن واجهوا تحديات الموت والابعاد…من أجل حياة حرة …وانسان محفوظ الكرامة والحقوق .لك ولغيرك. هو خبأ بحرص ماجرى له …لكنك تكتشف ماوراء السطور من معنى …وهنا تكمن حذاقة الكاتب وقدرته على جلبك الى المنطقة التي يريدها…تاركا لنا حرية أستيعاب ذلك الالم ..لتجد دمعك مرتميا على سطوره كأن الدمع نقيع الضمير المعذب ..أمام عذابات غيرنا…عندما تقرأ كتاب ترميم الذاكرة …ستعيده حتما …لانه يخصك …أنت أيها العربي …في كل مكان….
سلامة الصالحي
العراق بغداد