آخر الأخبار
ألمقالات

حين يأتي النقد من داخل الخندق لا من خارجه

حين يأتي النقد من داخل الخندق لا من خارجه
قراءة في موقف غسان بن جدو من السيد المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران ،السيد علي الخامنئي
وأنا أتصفح بعض المقالات المنشورة، استوقفني عنوان بدا للوهلة الأولى صادمًا ومربكًا في آنٍ واحد:
«كيف انتقد السيد غسان بن جدو المرشد الأعلى الإيراني السيد علي الخامنئي؟»
قبل أن أبدأ القراءة، وجدتني أتوقف تلقائيًا وأسأل نفسي:
من انتقد من؟
فكلا الاسمين ليسا عابرين في الوعي العام، ولا طارئين على المشهد.
هذا إعلامي بلغ قمة العطاء المهني، وصنع لنفسه مكانة تتجاوز المهنة إلى التأثير، وذاك قائد إسلامي تدنّى بتواضعه دون الجميع، وارتفع بعلمه وحده إلى حدّ السماء، حتى غدا رمزًا لا لمنصبه فقط، بل لمعنى الثبات على المبادئ في زمن الانكسار العربي والإسلامي الطويل.
شدّني هذا التناقض الظاهري، لا بدافع الإثارة، بل بدافع الفهم.
فبادرت إلى قراءة المقال بسرعة، بشغف حقيقي، لا لأبحث عن فضيحة فكرية، بل لأفهم كيف يمكن أن يلتقي النقد مع الاحترام، والاختلاف مع الاعتراف بالمكانة.
ومن هنا بدأ السؤال الأعمق.
الحقيقة أنني لا أكتب دون حافز، ولا أجدني أمسك القلم إلا إذا كان هناك دافع يستفزني ويدفعني إلى التفكير قبل الكتابة.
قد يتهمني البعض بأنني كاتب انفعالي، وربما لا أخالفهم كثيرًا؛ فهذه – في تقديري – إحدى سمات الشخصية القروية الصادقة، تلك التي لا تجيد البرود ولا تحسن التفاعل المؤجل.
ورغم أنني لم أسكن الريف يومًا، إذ كانت ولادتي في المدينة، وكان والدي موظفًا حكوميًا، إلا أنني أجدني في الكتابة لا أتحرك إلا بدافع، ولا أكتب إلا حين أشعر أن فكرة ما طرقت رأسي بعنفٍ يستحق التوقف عنده.
فالكتابة، بالنسبة لي، ليست تمرينًا يوميًا، بل استجابة لحظة وعي، أو صدمة سؤال، أو استفزاز فكرة.
وهكذا كان دافعي لكتابة هذا المقال؛
عنوانٌ عابر، وسؤالٌ بدا غير مألوف، ودهشة أولى دفعتني إلى القراءة، ثم إلى التفكير، ثم إلى الكتابة، لا بدافع الخصومة، بل بدافع الفهم.
ليس من السهل، ولا من المألوف، أن يُوجَّه نقدٌ إلى شخصية بحجم ومكانة السيد علي الخامنئي، لا بوصفه قائدًا سياسيًا فحسب، بل باعتباره مرجعا اسلاميا عظيما و رمزًا لمرحلة كاملة من الصمود، وعنوانًا لمشروع مقاوم تشكّل في وجه الهيمنة والابتزاز والانكسار العربي والإسلامي الممتد.
ولهذا، فإن أي نقد يصدر في هذا الاتجاه يُقابَل تلقائيًا بالريبة، ويُقرأ غالبًا على أنه خروج عن الصف أو تخلٍّ عن المبادئ.
لكن الإشكال الحقيقي لا يكمن في فعل النقد ذاته، بل في مصدره، ونيّته، وسياقه.
وهنا تحديدًا يمكن فهم موقف السيد غسان بن جدو، لا كخصومة مع رمز المقاومة، بل كنقدٍ صادر من داخل البيت، ومن داخل الخندق ذاته، لا من خارجه.
النقد حين لا يكون انقلابًا على الفكرة
من يقرأ طرح بن جدو بإنصاف، بعيدًا عن الاصطفاف العاطفي أو ردّ الفعل الغريزي، سيلاحظ أمرًا جوهريًا:
الرجل لم يناقض جوهر مشروع المقاومة، ولم يشكك في الدور التاريخي الذي مثّله السيد الخامنئي في تثبيت هذا المشروع، بل على العكس، انطلق من الاعتراف بهذه المكانة ليطرح سؤالًا مختلفًا:
هل تبقى الفكرة حيّة إذا تحوّل الرمز إلى منطقة محرّمة على المراجعة؟
هذا السؤال، مهما بدا صادمًا للبعض، ليس عدائيًا، بل هو سؤال أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا.
فالتجارب الكبرى لا تنهار عادةً بسبب خصومها، بل بسبب تعطيل النقد داخلها.
الفرق بين المساس بالمقام ومساءلة الأداء
الخلط الشائع – وربما المتعمّد أحيانًا – هو اعتبار أي نقد مساسًا بالمقام.
لكن التجربة السياسية والفكرية، بل وحتى الدينية، تقول غير ذلك.
بن جدو لم يناقش شرعية القيادة، ولا أهلية الرمز، ولا التاريخ، بل ناقش:
أثر مركزية القرار حين تطغى على التنوع داخل محور المقاومة
مخاطر تحويل القائد إلى مرجعية سياسية غير قابلة للنقاش
احتمالية أن تؤدي بعض المقاربات إلى تكلّس المشروع بدل تجديده
وهنا يصبح النقد ليس نقيضًا للولاء، بل أحد أشكاله الراقية.
حين يصبح الصمت خطرًا على الفكرة
في كثير من التجارب الثورية، يبدأ الانحراف لحظة يُستبدل الإيمان بالمشروع بـ الخوف من نقده.
وحين يُفهم الصمت على أنه وفاء، تتحول الأخطاء الصغيرة إلى مسارات مغلقة، ويصبح التراجع مكلفًا، بل مستحيلًا.
من هذا الباب، يمكن فهم منطق بن جدو:
ليس خوفًا على موقع، ولا بحثًا عن تمايز إعلامي، بل قلقٌ من أن تتحول الرمزية العالية إلى عبءٍ على الفكرة ذاتها.
فالقيادات الكبرى لا تحتاج إلى حراس صمت، بل إلى عقول يقظة تذكّرها بأن المشروع أكبر من الأشخاص، مهما علت مكانتهم.
المقاومة ليست عقيدة جامدة
واحدة من أخطر الإشكالات التي تواجه أي مشروع مقاوم هي تجميده عند لحظة تاريخية واحدة، وكأن الزمن توقف هناك.
بينما الحقيقة أن المقاومة – إن أرادت البقاء – يجب أن:
تراجع أدواتها
تعيد تقييم خطابها
تسمح بالاختلاف داخلها دون تخوين
وهذا ما حاول بن جدو الإشارة إليه، وإن بدا الطرح ثقيلًا على آذاني التي اعتادت سماع صوت واحد فقط.وربما على اسماع اخرين مثلي .
خلاصة القول
ليس كل من ينتقد خصمًا،
وليس كل من يطرح سؤالًا خائنًا،
وليس كل من يرفض التقديس الأعمى خارجًا عن الصف.
أحيانًا، يكون النقد هو آخر خطوط الدفاع عن الفكرة،
وأحيانًا، يكون الصمت هو بداية تآكلها من الداخل.
إن قراءة موقف غسان بن جدو بعيدًا عن الانفعال، تكشف أنه لم يكن في مواجهة السيد علي الخامنئي، بل في مواجهة فكرة تحويل الرموز إلى ما فوق النقاش.
وهذا – شئنا أم أبينا – نقاش لا مفرّ منه إذا أردنا لمشروع المقاومة أن يبقى مشروعًا حيًا، لا أيقونة معلّقة على جدار التاريخ.
الكاتب: حسن درباش العامري
المدينة: بغداد
تاريخ الكتابة: 29 كانون الأول 2025

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى