السلطة بريق يعمي العيون


كتب رياض الفرطوسي
السلطة بريق لا يشبه النور؛ إنها وهجٌ يخطف الأبصار ويعمي البصائر. من يتذوق طعمها سرعان ما ينشغل بسطوته عن واجبه، فلا يرى سوى عرشه ولا يسمع إلا صدى صوته. حتى أصوات الناس الغاضبة، مهما علت، تذوب أمام سطوة المال وسطوة المصالح، كأنها مجرد همسات في العاصفة.
لأكثر من عقدين تحولت السياسة في بلادنا إلى ساحة مغانم لا إلى ميدان بناء. كان المنتظر أن تُشيَّد الدولة على أسس العدالة والمواطنة، لكن الطبقة الحاكمة آثرت أن تشيّد عروشها الخاصة: المال في يد، النفوذ في يد أخرى، أما خيوط العلاقات والمحسوبيات فكانت جدران حصونهم. التجربة أثبتت أن القواعد القديمة لم تُنتج دولة حقيقية، بل كياناً مسخاً ينهشه الفساد وتتقاسمه الولاءات.
ومع اقتراب موعد الانتخابات، تعلو الأصوات وتتضاعف التصريحات، لكن الجوهر لم يتبدل: معركة على السلطة بأي ثمن. البرلمان، الذي يُفترض أن يكون بيت الشعب، صار مسرحاً محجوزاً سلفًاً تتبدل أسماء التحالفات في كل دورة انتخابية، لكن الممثلين هم أنفسهم، يتبادلون الأدوار والمقاعد، بينما الشعب عالق في مقاعد المتفرجين.
المعادلة القديمة تبدو للوهلة الأولى حصينة، لكنها في حقيقتها دائرة مغلقة. السياسيون يلوّحون بالمال لحشودهم، وبالإقصاء لخصومهم، وخلفهم منظومة متكاملة تحرس مواقعهم وتجدّد سلطتهم. من هنا يعلو سؤال الشارع: هل الانتخابات محسومة قبل أن تبدأ؟ فالناس يؤمنون أن من يملك المال والإعلام والسلاح، يملك أيضاً نتائج الصناديق قبل أن تُفتح.
هذه المعضلة ليست محلية وحدها، بل صورة متكررة في المشهد العربي. المخرج السوري الفلسطيني عمر أميرالاي، الذي أفنى حياته في نقد الواقع، رأى أن كثرة الفصائل الفلسطينية وانقسامها بين الولاءات والأنظمة لم تقوِّ القضية، بل بدّدتها. تحولت فلسطين إلى ورقة في أيدي أنظمة تبحث عن نفوذها أكثر مما تبحث عن الحق. النتيجة أن القضية الكبرى تفتتت إلى شظايا، كما تتفتت أوطاننا اليوم بين صراعات القوى وجشع الساسة.
التاريخ يعيد نفسه. سياسيونا يكررون ذات الأخطاء: تقسيم البلاد إلى حصص ومغانم، صناعة أزمات لا تنتهي لتثبيت سلطتهم، ولو كان الثمن آلام الناس. لكنهم لا يدركون أن الكرسي الذي يتصارعون عليه هو ذات المقعد الذي قد يسقطون منه. الشعوب، مهما صبرت، لا تنسى، ومهما أُنهكت، لا تُهزم.
الخروج من هذه الدائرة لن يكون بإعادة إنتاج نفس القواعد، بل بكسرها. فالمستقبل لا يُبنى بالقوة، بل بالعدل. ولا يُصان بالمال، بل بالثقة. وإن لم يستفق الساسة من سكرة البريق، فإن التاريخ وحده كفيل بأن يقتص، فهو لا يرحم سلطة أعماها وهجها، ولا يمد عمراً لعرشٍ قام على أنقاض الناس.