بعد انخفاض صرف الدينار.. هل تزيد موازنة العراق الجديدة من معاناة العراقيين؟
![](wp-content/uploads/2020/12/الدينار.jpg)
أعلنت الحكومة العراقية، والبنك المركزي العراقي، بشكل مباغت، واحدًا من أصعب القرارات الاقتصادية، ألا وهو خفض قيمة العملة الوطنية، ليصبح الدولار الأمريكي الواحد يساوي 1450 دينارًا عراقيًّا، بعد أن كان 1182 دينارًا لكل دولار أمريكي، ويعد هذا هو التخفيض الأول لقيمة العملة منذ ما يقرب من نصف عقد.
بعد القرار، نزل مئات العراقيين إلى ساحة التحرير بالعاصمة العراقية بغداد، للاحتجاج، معلنين غضبهم من قرارات الحكومة التي من شأنها أن تزيد من معاناتهم الاقتصادية القائمة بالفعل.
وفي الوقت الذي كان فيه المتظاهرون يحتجون على القرار في ساحة التحرير، سارع «حيدر» (35 عامًا)، وزوجته إلى المتجر القريب من منزله، لشراء السلع الغذائية؛ خشية ارتفاع أسعارها بعد قرار خفض قيمة العملة، يقول حيدر لـ«ساسة بوست»: «أعمل موظفًا في إحدى الإدارات الحكومية، وراتبي لا يكفي أسرتي في الأوقات العادية، فكيف سيصبح حالنا بعد هذا القرار اللعين، كل شيء سيرتفع ثمنه الآن».
موازنة جديدة لعام آخر من العذاب!
وافق مجلس الوزراء العراقي يوم الاثنين الماضي، على مشروع موازنة عام 2021، بقيمة 120 تريليون دينار عراقي، أي ما يعادل 103 مليارات دولار أمريكي. جاء مشروع الموازنة للعام الجديد المقبل، وسط أزمة اقتصادية طاحنة تمر بها البلاد، من جراء تفشي جائحة فيروس كورونا، وانخفاض أسعار النفط.
قال مسئول حكومي مفضلًا عدم الكشف عن هويته: «نعلم أنها موازنة صعبة، وأنها ستزيد من معاناة الناس، لكن لا بديل عن هذه الإجراءات، تعتمد الحكومة العراقية على النفط لتمويل أكثر من 93% من ميزانيتها، وبعد الأزمة الأخيرة، وانخفاض أسعار النفط، أصبح لدينا عجز بنسبة 12%، لذلك لا مفر من بعض القرارات الموجعة».
كان قرار خفض قيمة العملة أمام الدولار الأمريكي، هو أحد أكثر القرارات الموجعة التي تحدث عنها المسئول في الحكومة العراقية، فهذا القرار يعني خفض القدرة الشرائية للمواطنين المتضررة بالفعل منذ عام 2019، كما أنه يترك موظفي الدولة أمام رواتب لا قيمة لها.
يتحدث حيدر بحزن بالغ قائلًا: «هذا القرار يعني أن راتبي سيصبح بلا قيمة أكثر مما كان، لا أمل في هذه الحكومة، ولا حتى في الحكومة المقبلة، لا يمكن لأحد من هؤلاء الساسة الحاليين، أن يحل مشكلات العراقيين».
أزمة العراق الاقتصادية.. «إرث» حكومة عادل عبد المهدي
بالعودة إلى الوراء، وبالتحديد إلى عام 2019 وحتى مايو (أيار) 2020، عندما كانت حكومة عادل عبد المهدي ما زالت في الحكم، تستطيع أن تكتشف بداية الأزمة الاقتصادية الحالية للعراق.
أينعم، إن أزمات العراق الاقتصادية، ليست حصرًا على حكومة بعينها، فجميع الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 كان لها دور كبير في ما وصل إليه العراق الآن، إلا أن حكومة عادل عبد المهدي في عام واحد فقط، ومن خلال اتخاذ عدد من القرارات الاقتصادية العشوائية، تسببت في تفاقم الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العراق الآن، من بين أمور أخرى.
اندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء العراق في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2019، ونزل مئات الآلاف من العراقيين إلى الشوارع والساحات من أجل التظاهر والاحتجاج على الفساد المالي والإداري المستشري في البلاد منذ أكثر من 15 عامًا، ونقص الخدمات الأساسية، والبطالة، واعتراضًا على النخبة السياسية الحالية، التي تتحكم في مصير البلاد.
عندما اندلعت هذه الاحتجاجات، كانت حكومة رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، بالكاد تكمل عامها الأول في السلطة، في غضون ذلك طالبه المحتجون بتقديم استقالته لفشله في تحقيق أي شيء يذكر للعراقيين.
بعد الشد والجذب، استقال عادل عبد المهدي من منصبه في ديسمبر (كانون الأول) 2019، وتولت حكومته مهمة تسيير الأعمال لفترة من الوقت، قبل الاستقالة وبعدها.
اتخذت هذه الحكومة المنتهية ولايتها العديد من القرارات الاقتصادية، لتهدئة الشارع العراقي، هذه القرارات كانت من أهم العوامل الرئيسية المتسببة في الأزمة الاقتصادية الحالية، بحسب الخبراء الاقتصاديين الذين تحدثوا لـ«ساسة بوست».
يقول الخبير الاقتصادي العراقي، ماجد الربيعي، «اتخذت حكومة عبد المهدي بعد المظاهرات ما يقرب من 30 قرارًا اقتصاديًّا، يمكن وصفهم جميعًا بالقرارات الكارثية، فقد قدمت الحكومة حزمة إصلاح اقتصادي بحوالي 6 مليارات دولار، وزعت عددًا من الوظائف على الشباب الغاضب لقلة فرص العمل، بدون أي تخطيط، منحت الأراضي والمشروعات بشكل عشوائي، مما مهد لما نمر به الآن».
كانت حكومة عادل عبد المهدي، والتي اتهمها المحتجون بأنها لم توفر فرص العمل للشباب، أو تساعد في وضع حد للبطالة، تهدف من وراء هذه الأمور إلى كسب ثقة المتظاهرين، ولسان حالها يقول: «انظروا، لقد وفرت لكم فرص العمل، عودوا إلى منازلكم الآن».
لكن هذه القرارات، لم تجعل المتظاهرين يتخلون عن حركتهم الاحتجاجية، ولم توفر فرص العمل بشكل منظم، فقد تحدث مسئول حكومي سابق شريطة عدم الكشف عن هويته، عن مسألة الإتاحة العشوائية للوظائف، قائلًا: «الوظائف التي أعلن عنها السيد عبد المهدي، استغلتها الأحزاب السياسية، لأغراض انتخابية، أنا شخصيًّا أعرف سياسيين باعوا هذه المناصب بآلاف الدولارات للعراقيين، مستغلين هذا الأمر، في الدعاية الانتخابية».
كان عادل عبد المهدي، يبدو غير مدرك لما تسببت فيه قرارات حكومته، فقد أعلن في اجتماع مع وزرائه، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 أن الاقتصاد العراقي في عهده قد انتعش، وأن حكومته نجحت في محاربة الفساد بشكل كبير، كما أشار إلى نجاح حكومته في تخصيص الأراضي السكنية للعراقيين، وإتاحة فرص العمل للعديد من الشباب!
المصائب لا تأتي فرادى.. جائحة فيروس كورونا وانخفاض أسعار النفط
بعد القرارات الاقتصادية «المشينة» لحكومة عادل عبد المهدي، في أيامها الأخيرة، جاء فيروس كورونا ليزيد الطين بلة؛ إذ اضطرت الحكومة العراقية مثل نظرائها في العالم، إلى اتخاذ بعض الإجراءات الصعبة لمواجهة خطر تفشي الفيروس.
شملت هذه الإجراءات حظر التجول، وإغلاق الطرق بين المدن، وإلغاء إقامة المناسبات الدينية التي ترتب عليها تدهور السياحة الدينية، والتي كانت مصدرًا لرزق الكثير من العراقيين.
يقول الخبير الاقتصاد ماجد الربيعي «جاء فيروس كورونا ليطيح ما تبقى من صبر العراقيين، فبسبب إجراءات الإغلاق، تعرضت الكثير من المشروعات الصغيرة والمتوسطة للانهيار، كما انهار قطاع السياحة الدينية بالكامل».
بعد أن تفشى فيروس كورونا في الجمهورية الإسلامية، منعت الحكومة العراقية دخول الزائرين الإيرانيين إلى العراق، لزيارة الأماكن الدينية والأضرحة، والنتيجة كانت مئات من الفنادق في مدينتي النجف وكربلاء خاوية.
يروي أبو غنيم، الذي يمتلك فندقًا في مدينة النجف وآخر في كربلاء، الأزمة الاقتصادية التي مر بها، فيقول: «الفندق الذي أمتلكه في النجف يحتوي على 50 غرفة، وفندق كربلاء يحوي 110 غرف، ولم يأت زائر واحد فقط حتى من داخل العراق، لأي من الفندقين، جميع الفنادق في النجف وكربلاء أُغلقت بالكامل، ولم تقدم لنا الحكومة أي مساعدة». وما سرى على الفنادق، يسري أيضًا على المطاعم والمقاهي ليس فقط في النجف وكربلاء، بل في أغلب المدن العراقية.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد تبع تفشي فيروس كورونا في العالم، انخفاضًا حادًّا لأسعار النفط، ما يمثل كارثة بالنسبة للاقتصاد العراقي على وجه التحديد، ففي شهر مارس (آذار) من العام الجاري، صرح مظهر محمد صالح مستشار الشئون الاقتصادية للحكومة العراقية، بأن العراق «فقد نصف عائداته المالية مع انخفاض أسعار النفط إلى 30 دولارًا للبرميل».
جدير بالذكر أن الاقتصاد العراقي، اقتصاد ريعي، يعتمد على النفط موردًا أساسيًّا لميزانيته، كما تذهب أغلب عائدات النفط لدفع رواتب موظفي الدولة، الذين يقدر عددهم بحوالي 7 ملايين موظف؛ مما يضع العراقيين أمام تهديد كبير.
حاول رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، تهدئة مخاوف المواطنين من جراء انخفاض أسعار النفط، قائلًا إنها مجرد عثرة، ولن تعلن الدولة إفلاسها، مؤكدًا أن حكومته، المنتهية ولايتها في ذلك الوقت، قد اتخذت العديد من الإجراءات لمحاولة إنقاذ البلاد من خطر انخفاض أسعار النفط.
ولكن، وبحسب الخبير الاقتصادي، ماجد الربيعي، لم تكن هناك أي محاولات جادة لاحتواء هذه الأزمة، «أين هذه القرارات التي تحدث عنها السيد عبد المهدي؟ لا أثر لها، كانت حكومة فاشلة بامتياز».
أزمة الرواتب والحلول المؤقتة «العبثية»
كانت النتيجة الطبيعية التي توقعها الخبراء الاقتصاديون العراقيون، لانخفاض أسعار النفط، هي أزمة الرواتب، وعجز الحكومة العراقية عن دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين؛ إذ تدفع الحكومة العراقية حوالي 5 مليارات دولار شهريًّا رواتب لموظفي الدولة، ومع انخفاض أسعار النفط، وانخفاض عائدات العراق النفطية إلى النصف، وقفت الدولة عاجزة عن دفع الرواتب للموظفين لمدة شهرين، فلم يتلق أي موظف أو متقاعد راتبه خلال شهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) 2020.
يقول مسئول في الحكومة العراقية الحالية، والذي وافق على الحديث شريطة عدم ذكر اسمه، «نفقات الدولة، والرواتب تكلف الحكومة شهريًّا حوالي 6 مليارات دولار، ولا تستطيع الحكومة الحالية توفير هذا المبلغ في الوقت الحالي».
لمواجهة هذه الأزمة، اضطرت الحكومة والبرلمان العراقي إلى إقرار قانون العجز التمويلي، الذي يهدف إلى اقتراض الدولة حوالي 12 تريليون دينار، أي ما يعادل 10 مليارات دولار من بنوك أجنبية ومحلية.
وصف السيد الربيعي هذا القانون بأنه حل عبثي يزيد من سوء الأمور، فيقول لـ«ساسة بوست»: «كان حلًّا لا بد منه، لكنه مؤقت وعبثي، وغير كافٍ لحل الأزمة الطاحنة، لكن في الوقت نفسه، يريد الموظفون رواتبهم».
الموازنة الجديدة والمزيد من الضرائب
بالعودة إلى الموازنة الجديدة للعراق، والقرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة في الأيام القليلة الماضية، فبجانب قرار خفض قيمة العملة، تحتوي مسودة موازنة عام 2021 على قرار بفرض ضريبة القيمة المضافة بنسبة 12%.
ففي 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، طالبت اللجنة المالية في البرلمان العراقي، الحكومة بتطبيق ضريبة قيمة مضافة بنسبة 12%، ابتداء من عام 2021، وهو ما حدث بالفعل وأُضيف لمسودة الموازنة الجديدة.
يقول المسئول الحكومي لـ«ساسة بوست»: «لا تفرض الحكومة العراقية الكثير من الضرائب، والكثير من الشركات الكبري تتهرب من دفع الضرائب بمساعدة الفاسدين داخل جميع الحكومات، فتشكل الضرائب حوالي 2% من الناتج المحلي الإجمالي».
وبحسب المسؤول الحكومي، فإن البرلمان والحكومة العراقية، قد اتخذوا قرارًا بشأن ضريبة القيمة المضافة، وإدراجها في موازنة العام المقبل، من أجل العمل على تطوير الخدمات العامة في العراق.
وبحسب ما أصدرته اللجنة المالية في البرلمان العراقي، فإن العام المقبل سيشهد فرض العديد من الضرائب، ستكون هناك ضريبة على السيارات والعقارات، فرض الضرائب على جميع العاملين بالدولة، ورفع ضريبة الدخل على العاملين في الشركات الكبرى.
الحديث عن ضريبة القيمة المضافة، والعديد من الضرائب الأخرى التي تفرضها الحكومة في المستقبل القريب، أثار غضب قطاعات واسعة من الشعب العراقي، الذي يعاني من انخفاض قدرته الشرائية بالفعل، ولا يعلم كيف يتعايش مع قرار خفض قيمة العملة.
يقول حيدر «مع ضريبة القيمة المضافة، لن يكفي راتبي لشراء أي شيء، لا أعلم كيف يفكر المسئولون، سيجعلون جميع الشعب تحت خط الفقر».
يرى حيدر أن الحكومة تكذب بشأن استخدام أموال الضرائب لتوفير الخدمات الأساسية، وتطوير البنية التحتية، فيقول «ليس لدي أدنى شك بأن أموال الضرائب التي ستأخذها منا الحكومة، ستذهب إلى جيوب السياسين والأحزاب، لقد وزعوا النفط على أنفسهم من قبل، فهل يتركون أموال الضرائب؟».
وبالتقاط طرف الحديث من حيدر عن الفساد والفقر، فجدير بالذكر، أن العراق مصنف ضمن الدول العشرين الأكثر فسادًا في العالم، وقالت منظمة اليونسيف الدولية، إن أكثر من 31% من العراقيين يعيشون تحت خط الفقر، مقابل 20% في عام 2018. ومن المتوقع أن تصل نسبة الفقر في العراق بداية من العام المقبل إلى 40% من سكان البلاد البالغ عددهم 40 مليون نسمة.
ينتظر العراق المزيد من القرارات الاقتصادية الصعبة، التي ستؤثر بشكل كبير في حياة العراقيين، مع غياب أي حلول قريبة في الأفق، ومع استمرار تفشي فيروس كورونا، وانخفاض أسعار النفط، وعدم اتخاذ أي خطوات جادة لمحاربة الفساد، والانتخابات البرلمانية المقبلة، التي بدأت النخبة السياسية في القتال من أجلها، يقف العراقيون على أعتاب عام آخر من المعاناة.
المصدر: ساسة بوست