المسافر والخيــــــــال( 35 ) الجزء الأخير
![](wp-content/uploads/2023/01/IMG-20221216-WA0110-16.jpg)
المسافر والخيــــــــال( 35 ) الجزء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأخير
ـــــــــــ
هناك من اللحظات المثيرة والكثيرة التي كثيرا مايمر به الإنسان حينما تعتريه المصادفات التي لم يكن قد خطط لها ، وقد تكون مابين مصادفات الفرح تارة ومصادفات الحزن تارة أخرى ولكن كل شيء بمقدار .
في رحلتي الأخيرة إلى اسطنبول في مطلع عام 2022 ، كان فندق ( هيلتون بسفور اسطنبول ) نزلا مناسبا لي ولأصدقائي الذين كانوا معي في تلك الرحلة ، ومن نمط رحلتنا تلك كان تجمعنا في مطعم الفندق صباح كل يوم عند تناولنا الفطور ، وعند أول يوم وبينما كنا في صالة المطعم جلب انتباهي رجل يتصدر الطاولة التي تكاسرنا بقليل ، ويبدو عليه أن عمره مقارب لأعمارنا ، أي قد تجاوز الستين بقليل ، رجل رشيق وطويل ، أخذ الصلع من رأسه ما أخذ تاركا بضع شعيرات على جانبي راسه وقد غلبها الشيب وكاد السواد اشبه مايكون في حالة الإنقراض تاركا لونا رماديا وله شارب عليه مابقي من السواد الشيء القليل بينما راح الشيب في حالة تنافر هنا وهناك ، وعندما غالبه الإحساس باننا عراقيون من خلال كلامنا أخذ زمام المبادرة بالسلام من وضع الجلوس وقد شاب حديثه بعض من الطرائف التي بادلناه بها ورسمت على شفاهنا ابتسامات تجانست مع صلب الحديث .
بعد تناولنا إفطارنا كانت لنا استراحة قصيرة في صالة الإستقبال فوجئنا بصديق لنا يعمل ربانا في قيادة السفن التجارية يدخل صالة الإستقبال ، الذي اندهش من وجودنا امامه وراح يمد يده ليصافحنا فردا فردا ، ودعوناه للجلوس ، فقبل الجلوس معنا ، ولكن بعد الإطمئنان من وجود صديق له ، سبق وإن تواعدا هنا في اللقاء ، ومما زاد اندهاشنا أن ذلك الصديق الذي ينتظره ، هو نفسه الذي كان يجلس مكاسرا لنا في صالة المطعم ، فما كان منه الا أن يعرفه إلينا موضحا إنه زميل دراسة لنا جميعا ، وإنه مهندس بحري درس وانهى دراسته وتخرج في الكلية البحرية العراقية ، وبعد الأخذ والرد بالكلام وصلت إلى نتيجة بأنه كان زميلا لي في يوم من الأيام في رحلتنا التدريبية على السفينة إبن خلدون ( راجع 24 ، 25 ، 26 ، 27 ) ، وهو نفسه الذي قص علي حكايته الغريبة مع إخته وأخيه ، اللذين ابتعدا عنه وهو أصغرهما سنا في الوقت الذي كان أحوج مايكون لهما بعد وفاة ابيهم ، ورجعت بي الذاكرة إلى أن أتذكره جيدا وهو يقص علي حكايته مع اخته واخيه ذات ليلة من ليالي سفرتنا على ظهر السفينة ابن خلدون ، اي كان هذا اللقاء قبل تخرجنا في الكلية وافتراقنا منذ العام 1980 ، أي مايقرب ويزيد من اربعين سنة ، وهذا ماسبب عدم تعرفنا على بعض نتيجة للتقلبات الجسمانية الحاصلة بخاصة وجوهنا التي تغيرت كثيرا مع الأيام الطويلة ، فلم تعد تلك النظرة الشبابية ترتسم على وجوهنا ، والشيب أخذ من شعر راسنا ما اخذ بالإضافة إلى حالة الصلع التي تميزنا بها ، وهكذا تم التعارف من جديد وقد تواعدنا أن نلتقي مساء ذلك اليوم في صالة استقبال الفندق ، وودعناهما على أمل ذلك اللقاء مساء .
ذهب كل واحد منا لحاله ، بينما انا وصديقي الذي يرافقني كنا على موعد للذهاب إلى بانوراما اسطنبول ، وهي مجسم كبير في بناية كبيرة اعدت لهذا الغرض ، وصلنا اليها بعد اكثر من ربع ساعة مستقلين سيارة أجرة ، هذه البانوراما تحكي الملحمة البطولية والتاريخية لاقتحام ودخول اسطنبول على يد السلطان العثماني محمد الفاتح الذي لم يتجاوز عمره آنذاك على العشرين عام ، ولا أخفي سرا عندما أقول أن تلك المجسمات كانت في قمة الروعة في التنفيذ وهي تصور الملحمة البطولية التي تكاد تقترب من المعجزة في الدخول إلى اسطنبول بسبب صعوبة اجتياز منافذ الدخول اليها وكثرة الموانع التي يصعب اجتيازها ، ومن أهم الصعوبات كانت هناك سلسلة حديدية تعمل على منع اجتياز السفن المعادية والولوج إلى المياه المحيطة باسطنبول ، مما حدا بجيش محمد الفاتح من نقل السفن الحربية عن طريق البر ليلا ، إلى الجهة الأخرى وأنزلوها إلى الماء بحيث أصبحت تلك السلسلة خارج نطاق المانع المائي ، وهذا ماجعل جيش الروم في حالة من الرعب والذهول والتخبط للمفاجئة الكبرى من وصول السفن المعادية صباح اليوم التالي امام القلعة ليهم الجند باسقاط الموانع والحجابات الواحد تلوه الآخر .
كانت البانوراما عبارة عن مجسم لمدينة اسطنبول وقلعتها واسوارها والموانع المحيطة باسطنبول بالإضافة إلى مجسم الجند وهم يقتحمون تلك الأسوار والموانع ، التي كانت ترافقها اصوات وكانك تعيش جو تلك المعركة بالإضافة إلى الأناشيد العسكرية المميزة المصاحبة لتلك المعارك ، وبقينا هناك مايقرب ثلاث ساعات لنخرج منها ونحن في قمة الإندهاش مما رأينا وقد أخذنا فكرة كاملة عن تلك الملحمة البطولية .
حان الوقت حينها لتناول غدائنا في أحد المطاعم القريبة وحال انتهائنا منه قررنا التوجه إلى معلم سياحي آخر ، اصطلح عليه ( مـِـيني تورك ) وهي عبارة عن مدينة تشبيهية مصغرة لاسطنبول ، بحيث نتعرف على معالمها بشكل مباشر وكاننا امام خريطة لاسطنبول إلا أن الشيء المختلف انها مجسمة وموقعة على الأرض لتكون الصورة أقرب مايكون للواقع .
مكثنا هناك مايقرب الساعتين ، قمنا خلالها باستغلال الفرصة في الجلوس على كراسي الاسترخاء والمساج المنتشرة هناك لإراحة أبداننا من التعب المصاحب لرحلتنا هذه ، ولنعود إلى فندقنا بعد تلك الجولة الصباحية التي امتدت إلى مابعد الظهر ، وهكذا عدنا عصرا لنأخذ قسطا من الراحة على أمل اللقاء بزميلي القديم وحسب ما اتفقنا عليه .
وقبل مغرب ذلك اليوم كنت في صالة الفندق للقاء زميلي هذا الذي باعدتنا السنون عن بعض فاذا بي اراه يجلس امامي في انتظاري ، وعلى كؤوس عصير البرتقال كان لنا حديث ذو شجون ، وبادرته بالمديح لما قد وصل إليه وكيف رسم طريق حياته معتمدا على الله وهمته في المثابرة على قرع مصاعب الحياة وقساوتها التي المت به ، فابتسم لي معقبا بان ذلك من فضل الله عليه ، اذ بعد تخرجه في الكلية البحرية ، القسم الهندسي ، كان له حق إختيار المكان الذي سيعمل به ، لأنه نجح نجاحا باهرا ، فكان الأول على دفعته وهذا مأ أهله في اختيار الدائرة للعمل فيها وقد اختار دائرة النقل البحري في التعيين ، وبعد خدمة لما يزيد عن خمس وعشرين سنة طلب الإحالة إلى التقاعد ، وكان ذلك نهاية عام 2016 ، وقد استقر في السويد كسكن دائمي مع عائلته التي هاجرت بكاملها إلى هناك لظروف خاصة ، وله من الأبناء ولد واحد وبنتان ، جميعهم حصلوا على اللجوء هناك مع زوجاتهم ، والآن له من الأحفاد ماله ويقضي معظم اوقاته معهم ، ولكن بادرته بسؤال ربما لم يتوقعه وسالته عن علاقته بشقيقته وشقيقه ، فسكت قليلا وقد اخذ حسرة اعقبتها زفرة عميقة ، اذ قال أنه لم يرهما منذ أن افترقا عند دائرة التسجيل العقاري عند بيعهم البيت الذي عاشوا فيه وتربوا به بما يقرب من اكثر من ثلاثين سنة ، وأنه سمع من الناس وبعض الأقارب بأن زوج شقيقته قد انفصل عن زوجه تاركا لها ثلاثة ابناء وأنه لايعرف حتى اسماءهم ، وقد تزوجوا وتركوها وحيدة تعيش في بغداد بعد انفصالهم عنها في السكن ، أما شقيقه فلم يرزق بذرية على الرغم من محاولاته الكثيرة مع الأطباء لينتقل إلى جوار ربه منذ اكثر من خمس عشرة سنة وهو لا يعرف أي شيء عن زوجه ، ولم يسأل عما تركه من ورث ، لأنه وارث لشقيقه شرعا ، هنا تحركت مشاعري الحزينة لما آلت إليه هذه القصة المؤثرة ، وكيف انقلبت السعادة في بيت تربى به الأشقاء إلى تعاسة لتنتهي بهذا الشكل المأساوي .
وساد الصمت لحظات وطلبت منه اللقاء مجددا ظهر الغد على مائدة غداء تجمعنا في مطعم يختاره هو بنفسه ، فاعتذر لي عن ذلك لأنه قد عزم السفر فجرا مع إحدى الشركات السياحية للسفر إلى مدينة طرابزون ، وسيعود بعد سبعة ايام ليعود بعدها إلى السويد ، فتأسفت له لعدم استطاعتي لقائه مرة أخرى لأني سأعود إلى البصرة بعد ثلاثة أيام ، عندها نهضنا لنودع احدنا الآخر طالبا منه عنوانه ورقم هاتفه من أجل التواصل مستقبلا ، وهكذا ودعته وودعني تاركين لأنفسنا املا في اللقاء مرة أخرى .
ســــــــــعد عبدالوهاب طه
ايها الاحبة الغوالي ، شكرا لمتابعتكم وشكرا لملاحظاتكم ، وشكرا لتعقيباتكم التي سرتني واثلجت صدري ، شاكرا لكم عطر حروفكم ومديد كرمكم وانتم تسطرون كلماتكم العاطرة ، تقبلوا خالص احترامي وتقديري لكم جميعا