كورونا ( ج3 )
كورونا ( ج3 )
ـــــــــــــــــــــ
وتستمر أحاديثنا وكأننا هواء مضغوط في بالون وآن الأوان للتنفيس عن الضغط المسلط عليه ليأخذ الحديث مجرا ً آخر نحو الكرم الذي يعد من شيم القبائل التي تفتخر بمكارمها وتعدها مرجلة من المراجل ، ولو رجعنا الى التاريخ فلا يمكن لأحد أن ينكر دور حاتم الطائي في هذا المجال ، ولكن لم يكن حاتم الوحيد بل تعداه على مر الزمان ليظهر لنا من هنا وهناك أعلام سامقة في الكرم والجود وهذا ماكان من صفات وخصال العوائل العراقية العريقة ، ولا أريد ذكر الأسماء للضرورة الأخلاقية والأدبية والإجتماعية .
وبعد أن تطرق صديقاي إلى ما مر عليهما من أحداث عفى عليها الزمن ، شكرت صديقي الذي جمعنا في بيته على كرمه وحسن ضيافته فتغير مجرى الحديث إلى الكرم وتطرق كل واحد منا إلى مالاقاه من كرم خلال مسيرته ووصول أعمارنا إلى العقد السابع ، فكان هناك ما أطلق عليه إصطلاحا بالمضيف الذي يستقبل فيه الضيوف المستطرقين وهناك يقوم بضيافتهم أصحاب المضيف بتقديم ما يلزم تقديمه من واجبات الضيافة من مأكل ووسائل الراحة ، التي تكاد تندثر اندثارا تاما في يومنا هذا مواكبة لتطورات الزمن والحياة التي تغيرت فيها كثير من المفاهيم الإجتماعية ، هنا إنبرى صديقنا الثالث معقبا على هذه التغيرات قائلا : ــ
لقد تطرقتم إلى الكرم للمستطرقين ، ولكن سوف أحدثكم عن كرم الدعوات التأكيدية غير الكرم للمستطرقين .
تخرجنا في الكلية البحرية بعد دراسة وتدريب امتد لأربع سنوات ، ذهب كل واحد منا إلى مجال عمله وتخصصه في الوحدات العسكرية البحرية وكان من النادر أن نلتقي أحدا من أبناء دورتنا ، وقد فوجئت ذات يوم بـإحالة أحد ضباط دورتنا وهو برتبة رائد إلى التقاعد لعدم كفاءته ، وبعد أحداث عام 1991 تم نقلي إلى أحد تشكيلات صنف المشاة الواقع في أحد الأقضية لأحدى محافظات قطرنا العزيز ، وصباح ذات يوم رن جرس الهاتف الميداني في مكتبي ، فكان المتحدث إنضباط الإستعلامات وهو يقول لي أن هناك الرائد فلان يروم مقابلتك ، عندها سرني مجيء ابن دورتي الذي لم التقه منذ مدة طويلة بعد إحالته إلى التقاعد ، واستقبلته في مكتبي جذلا بمقدمه ورؤيته بعد فراق طويل ، وبعد تقديم واجبات الضيافة تطرقنا خلال ذلك اللقاء الى ذكرياتنا في الكلية وأهم الطرائف التي حصلت معنا خلال سنوات الدراسة ، حينها نهض ليغادر مكتبي موجها الدعوة لي ومن يروق لي أن أستصحبه معي لوليمة غداء ظهيرة الجمعة القابلة ، فحاولت الإعتذار ولكن لن أفلح بـإقناعه وأصر على ذلك الموعد وأكد علي أن أستصحب من أبغيه معي ، فقبلت الدعوة وودعته على أمل أن يأتي إلينا في ضحى الجمعة القابلة لإستصحابنا إلى داره حسب ما تم الإتفاق معه .
وصباح تلك الجمعة أخترت أحد الضباط الأقرب لي صداقة وزمالة وكان ابن أحد شيوخ إحدى المحافظات ودخلت على آمر التشكيل للإستئذان ولٱعرض عليه الدعوة ، فأعتذر عن الذهاب معنا وموافقا على خروجنا من المعسكر ، وحمدت الله كثيرا بعدم موافقته على المجيء معنا ، لأن زميلي وابن دورتي صاحب الدعوة لم يأت إلينا حتى هذه اللحظة أي بعد مرور أكثر من ثمانية وعشرين عاما ولم يقدم خلال تلك السنين أي إعتذار عما حدث ، وحدث شيء مشابه لما ذكرته آنفا ، إذ بعد أحداث قصف المدن خلال حرب الثمانينات نقلت سكني إلى بغداد ، وبعد إنتهاء تلك الحرب تطلب مني مراجعة دائرة نفوسي في البصرة فكان لزاما علي أن أشد الرحال مستصحبا معي زوجي لنقضي إصابتين في هدف واحد ، أي لقضاء عمل رسمي ولزيارة الأهل خلال تلك الزيارة ، وحدث ذات صباح أن التقي أحد الأصدقاء الذي تربطني به صداقة عائلية في شارع الصيادلة ، وأقسم على دعوة عشاء في منزله ، وحسب رأيه ، إنها فرصة للقاء زوجه مع زوجي ، ولم أفلح في الإعتذار فقبلت الدعوة على مضض ، وفي مساء اليوم المحدد ذهبنا إلى دار صديقي ولكن كانت هناك المفاجئة ، إذ بدا دار صديقي أظلما ، وطرقنا الباب والجرس ، فلم تكن هناك لنا أذن صاغية ، قد يكون له العذر في ذلك اذ ربما حدث له حدثا طارئا وما أكثر الحوادث الطارئة ، غادرنا المكان ولكن لم يقدم لي الإعتذار عما بدر منه إلى يومنا هذا .
تدخل صاحب الدار والدعوة قائلا ، كفى بنا من الذكريات ، ألا ترغبون بالعشاء ؟ ضحك الجميع ونهض صاحب الدعوة لإحظار وترتيب مائدة العشاء .
ســــــــــعد عبدالوهاب طه