كيف نمنع احتلال الوعي؟


كتب رياض الفرطوسي
لم يعد الخطر الذي يحدّق بوعينا اليوم صاخباً كما كانت الأخطار القديمة؛ لا جيوش على الحدود، ولا مقاصل في الساحات، ولا مستعمر يبحث عن أرض يرفع عليها علمه. الخطر الجديد ألينُ من الحرير، وأذكى من أن ننتبه له: خوارزميات تتسلل إلى حياتنا اليومية، تُهندس ما نراه، وتعيد ترتيب أفكارنا من دون أن ترفع صوتها. هيمنة ناعمة، بلا صرخات، لكنها قادرة على إعادة تشكيل العقول.
فالذكاء الاصطناعي لم يعد أداةً تُستخدم، بل أصبح بيئةً تُربّي وعقولًا تُنتج رؤيةً جديدة للعالم. أجهزة صغيرة بين أيدينا تعيد صياغة علاقتنا بالمعرفة، وتحوّل التعليم من تجربة إنسانية إلى سلسلة أوامر واستجابات. ومع كل خطوة، يفقد الإنسان جزءاً من قدرته على أن يكون صاحب القرار في عملية التعلم.
اللغة نفسها—وهي شريان الوعي—بدأت تتعرض لعملية فرز. لغات تمتلك حقّ الظهور الكامل داخل المنصات الذكية، ولغات تقف عند الباب تنتظر من يعترف بها. كلما غابت لغة، غابت ثقافة. وكلما تكثفت لغة واحدة، تكثفت معها قيمها ورؤيتها للعالم. هكذا يحدث الاحتلال الحقيقي: ليس بالسيطرة على الأرض، بل بالسيطرة على المعنى.
ولأن التعليم هو المصنع الأكبر للعقول، تسلّل الذكاء الاصطناعي إليه بلباقة ساحر. ليس في هيئة آلة منافسة، بل في هيئة مساعد لطيف يقدّم الدروس، ويصحح الواجبات، ويقترح الإجابات. لكن خلف هذا اللطف، سؤال يزحف بهدوء:
هل سيتعلم الطالب ما يريد… أم ما تقترحه عليه خوارزمية صُممت في مكان لا يشبهه؟
المعلم هنا ليس مهدداً بوظيفته كما يتوهم البعض، بل مهدد بدوره الأعمق: دوره في حماية الروح النقدية، في خلق مساحة للتساؤل، في تعلّم النظر خلف النص لا إلى النص فقط. عندما يتعود الطالب على إجابات جاهزة، يفقد مهارته في اكتشاف العالم بنفسه. وعندما يتعود على سرعة الخوارزمية، ينسى أن الفهم الحقيقي يحتاج وقتًا، وأن المعرفة ليست طريقاً معبّداً بل مسار مليئاً بالالتواءات.
الخطر ليس في امتلاك الآخرين للتكنولوجيا، بل في فقداننا نحن القدرة على إعادة إنتاج المعرفة بلغتنا ورؤيتنا. المجتمعات التي تستهلك المحتوى ولا تصنعه تشبه من يعيش في بيت جميل لكنه لا يعرف كيف بُني، ولا يملك حق تغيير غرفة واحدة فيه. تظل تكرر ما يُقدّم لها، حتى تفقد تدريجياً قدرتها على التفكير خارج ما صُمّم من أجلها.
فكيف نمنع احتلال الوعي؟
لا يكون ذلك بالصراخ ضد التكنولوجيا، ولا بمحاولة إيقاف العالم. بل يكون بأن نتعلم كيف نستخدم هذه الأدوات من دون أن نسمح لها بتحديد طريقة تفكيرنا. أن نعيد الاعتبار للمعلم بوصفه مُهندساً للوعي، لا موظفاً لشرح الدروس. أن نمنح اللغة العربية حقها في فضاء الذكاء الاصطناعي، ليس كشعار، بل كمحتوى ينتجه كتّاب ومؤسسات ومراكز تفكير. أن نعمّم مهارة الشك، مهارة السؤال، مهارة رفض الإجابة التي تأتي جاهزة أكثر مما يجب.
احتلال الوعي لا يُهزم بالمنع، بل بالمعرفة. لا يُهزم بالانغلاق، بل بالقدرة على صناعة بدائل. ولا يتوقف إلا عندما يصبح المتعلم قادراً على أن يرى الآلة بلا رهبة، ويستخدمها بلا تبعية، ويقرأ نتائجها كما يُقرأ نصٌ له مؤلف قد يخطيء وقد يصيب.
إن مستقبلنا لا تحدّده التكنولوجيا بقدر ما يحدده شكل وعينا بها.
فإذا فقدنا الوعي… ستكمل الآلة الباقي.
وإذا حفظناه… فلن تكون سوى أداة في يد إنسان يعرف إلى أين يريد أن يذهب.






