حديقة لا يزرعها أحد


كتب رياض الفرطوسي
من العجيب أن نصف الإنسان ذاكرة، والنصف الآخر محض خيال… هكذا قال بورخيس، وكأنه كان يضع إصبعه على الشرارة التي تضيء أعماقنا حين ينطفئ كل شيء آخر. والخيال، لمن يعرف طريقه، ليس زينةً للروح بل عضلةٌ تُترك فتذبل، أو تُدرّب فتخلق عالماً يمكن السير فيه كما نسير في الواقع تماماً، وربما بثقة أكبر.
لكن مشكلتنا، نحن أبناء هذه الجغرافيا المتعبة، أننا خسرنا الخيال كما تُخسر الأرواح في الحروب: بصمت، وبلا احتجاج. كأن أحداً مدّ يده إلى أدمغتنا وقصّ تلك المساحة التي كان يمكن أن تتحول إلى حديقة… حديقة لا يزرعها أحد الآن.
تخيل معي ــــ نعم، اسمح لخيالك أن يتنفس للحظة ــــ مقهى تركياً على البحر، المطر يهبط كاعترافٍ خجول، والضباب شفافاً كأرق الندم. هذا المشهد قد يكون حدث، أو لم يحدث، وقد يكون اختراعاً صافياً، لكنه مع ذلك يخلق فيك إحساساً حقيقياً. تلك الرعشة خلف القفص الصدري؟ ليست وهماً… هذا هو البرهان الساطع على أن الخيال “واقعٌ آخر”، مجرد واقعٍ يتخفّى، لكنه لا يكذب.
ومع ذلك، معظم الناس ــ ويا للعجب ــ لا يجدون منطقاً للخيال. لا يصدقون إلا ما تقع عليه أيديهم، كأنهم يملكون عيوناً تكره النظر أبعد من ميلٍ واحد. بعضهم يستعمل الخيال للشر: لإنتاج الخرافة، أو لفبركة أشباح يسكنها الخوف. خيالٌ مسروق، مستعمَل ضد صاحبه. وبعضهم لا يملك خيالاً أصلاً، كأن مخيلته أرضٌ قاحلة لم تهطل عليها القراءة يوماً.
القراءة… آه لو يعرف الناس أنها ليست هواية، بل عملية زرع بطيئة لحديقة داخل الرأس. كل كتاب يُنبت غصناً. كل حكاية تُثمر. التجربة تزيد الشمس. المعرفة تمنح الماء. لكننا ـــ ويا لخيبتنا الكبيرة ـــ نعيش في بيئة اجتماعية تُطفئ الخيال كما تُطفئ الرياح شمعة صغيرة. مدارسنا مشغولة بالحفظ، لا بالدهشة. بامتحان الإجابة الصحيحة، لا بسؤال “وماذا لو؟”.
في الغرب، يسقون الطفل خيالاً قبل أن يسقوه قواعد اللغة. يعطونه ورقةً فارغة ويقولون: “اخترع”. أما هنا فنقول للطفل: “لا تخترع… كن عاقلاً!”. وهكذا يكبر الولد وهو يحلم بما يسمح به المجتمع، لا بما يليق بروحه.
الخيال أنواع.
هناك خيال الخرافة، ذلك الوحش الذي يُربّي الخوف ويجعل المرء يتوهم ظلالاً لا وجود لها.
وهناك خيال الاستكشاف… خيال الأسئلة… خيال من يعرف أن العالم قابلٌ لإعادة التشكيل مهما بدت حدوده صلبة. هذا الخيال هو الذي صنع الفلسفة والعلوم والشعر والاختراعات. هذا الخيال هو الذي يمشي بالإنسان من ضفةٍ إلى أخرى دون أن يغرق.
لكن كيف نخرج من أزمة الخيال عندنا؟ كيف نعيد للدماغ تلك المساحة التي صادرها الخوف، والكسل، وسوء التربية؟ إذا أردنا أن ننهض من هذا العطب الخفي الذي أصاب خيالنا، فعلينا أن نبدأ من حيث تبدأ كل البدايات: من القراءة. ليس قراءة العظام وحدهم، فالكبار لا يُنبتون أشجاراً بلا تربة، بل قراءة كل ما يفتح نافذة، ولو كانت نافذة صغيرة تطل على شارع جانبي. قراءة الرواية التي تُثقل القلب ثم تُخففه، وقراءة السيرة التي تخبرك أن البشر يتعثرون مثلنا تماماً، وقراءة العلوم التي تُعلّم العقل أن يفكر خارج حدود رأسه، وقراءة الأسطورة التي تذكّرك بأن الخرافة ليست دائماً عدواً إذا وُضعت في مكانها الصحيح. فكل صفحة تُقلب تضيف طوبة إلى بيت الخيال الذي نحاول بناءه في العتمة.
ثم هناك موهبة السؤال… تلك الشرارة الصغيرة التي تعطي اتساعاً للعقل. فليس من يملك خيالاً واسعاً هو من يجيب بسرعة، بل من يتردد قليلاً قبل أن يقول: لماذا؟ كيف؟ وماذا لو؟ إن ثقافة السؤال وحدها قادرة على تفكيك الجدران التي بنيناها حول أنفسنا. كل سؤال هو باب، وكل باب يقود إلى دهشة جديدة، والدهشة هي أول درس في مدرسة الخيال.
ولأن الخيال لا يتنفس بالكلمات فقط، علينا أن نفتح له النوافذ التي تعبر منها الفنون. يكفي أنك تشاهد فيلماً عظيماً مرة واحدة في الأسبوع، أو تقف أمام لوحة لا تفهمها لكنها تحرك فيك شيئاً يشبه النمل، أو تستمع إلى موسيقى تبكيك دون أن تعرف السبب… يكفي هذا كي يتحرك في داخلك حجرٌ كان ساكناً منذ زمن. الفن لا يقول لك “تخيل”، لكنه يدفعك إلى ذلك دفعاً… يوقظ فيك قدرة كنت نظن أنها ماتت.
ولأن الخيال، مثل النار، قد يتحول إلى دخان خانق إن لم ننتبه، ينبغي أن نفرّق بين خيالٍ يقود إلى فهم أعمق، وخرافة تُعمي صاحبها. الخرافة ليست خيالاً، بل كسلٌ يتخفى. هي محاولة لتفسير العالم بلا عناء، بينما الخيال الحقيقي يجعلك تقترب من العالم أكثر، لا تهرب منه. الخرافة تحني الرأس، والخيال يرفعه. وكل مجتمع لا يميز بين الاثنين، يزرع الظلام في قلبه وهو يظن أنه يزرع نوراً.
ومع ذلك كله، يظل الخيال بحاجة إلى بيئة اجتماعية تسمح له بالوجود. بيئة لا تخاف من الطفل حين يرسم شجرة لها جناحان، ولا من الشاب حين يخطئ، ولا من الكاتب حين يجرب عالماً جديداً لا يشبه عوالم الناس. المجتمع الذي يخنق الخيال يخنق مستقبل أفراده، لأن الخيال ليس متعة فردية، بل طاقة جماعية ترفع سقف الحياة. ولعل أعظم ما يمكن أن نقدمه لأنفسنا هو أن نصنع هواءً يليق بالدهشة، حتى لو كانت الدهشة بسيطة مثل سؤال طفل: “لماذا لا تمطر السماء من الأسفل؟”.
وفي النهاية، لا يكفي أن نحلم لمجرد الهرب. الخيال الذي يهرب فقط، يخسر الطريق دائماً. أما الخيال الذي يفكر، الذي يقرأ، الذي يسمع ويشاهد ويسأل، فهو خيالٌ يُمسك يد الواقع ليعيد تشكيله. هذا الخيال له وظيفة: أن يوضح، أن يكشف، أن يفسر، أن يعطي معنى آخر لما يحدث. حين يتحول الخيال إلى وسيلة للفهم لا مجرد وسادة للنوم، حينها فقط يبدأ يثمر. يثمر في القرارات، في العلاقات، في الفن، في العمل، في الطريقة التي نرى بها العالم ونرى بها أنفسنا.
وهكذا نستطيع ــ ببطءٍ جميل ــ استعادة تلك المساحة الضائعة في داخلنا. فحديقة الخيال لا تنمو بالصراخ، بل بالرفق. لا تزدهر بالوعظ، بل بالدهشة. وكلما منحناها ماءً ومعرفة وضوءاً وسؤالاً، عادت الحياة تدبّ فيها، وتدبّ فينا معها… وكأننا نستعيد شيئاً نسيناه منذ الطفولة ولم نعرف قيمته إلا حين كبرنا.
كذبة، وليس لعبة… إنه جهاز تنفّسٍ إضافي حين يختنق الواقع. وحين يفتقده الناس، يصبحون مثل تلك السفن الراسية في ظلام البحر الأسود: لا تتحرك إلا بدفع الخارج، لا بما يشتعل في الداخل.
ولو سألني أحد: لماذا نحتاج الخيال؟
لقولت: كي لا نموت مبكرين ونحن ما زلنا أحياء.
حديقة الخيال تنتظر… لكن أحداً لن يزرعها بالنيابة عنّا.





