بغداد تختنق… هل هو تلوّث عابر أم جريمة متعمّدة بحق الشعب؟


لم يعد ما يحدث في بغداد مجرّد موجة تلوّث اعتيادية يمكن المرور عليها بهدوء. ما تعيشه العاصمة اليوم يشبه حصارًا خانقًا يطبّق على صدور الناس ويخنق أنفاسهم، حتى أصبحت المدينة غارقة في هواء ثقيل مشبع بالرصاص والكبريت والبارود، بينما تختفي المباني العالية خلف ستار أسود من الدخان، وتتحول حركة الناس إلى فعل مقاومة يومي ضد هواء مسموم.
هذه ليست ظاهرة مناخية، وليست “تموجات هوائية” كما تحاول بعض الجهات تبريرها. ما يجري في بغداد أخطر وأعمق وأقرب إلى كارثة بيئية مُفتعلة أو إهمال حكومي قاتل يهدد حياة الملايين.
رصاص المولدات وعوادم السيارات… سموم يومية تنتشر بلا رقيب
ارتفعت تركيزات الرصاص والغازات السامة في هواء بغداد إلى معدلات خطيرة، نتيجة الفوضى في عوادم السيارات القديمة، والانفلات الكامل للمولدات الأهلية التي تلتهم وقودًا رديئًا وتنفث سمومها في كل حي وشارع.
وبدلاً من معالجة جذور المشكلة، أصبح المواطن يعيش داخل مدينة تحوّلت إلى معمل ضخم لإنتاج التلوث، بينما تكتفي الجهات المختصة بالمشاهدة.
السحابة الكبريتية… كارثة تتكرر والحكومة تنفي
خلال الأيام الأخيرة، غطّت بغداد سحابة دخانية كثيفة ذات رائحة كبريتية حادة، تمزج بين رائحة البارود والغازات المحترقة.
مشهد جعل العاصمة تختفي خلف ضباب خانق، وأصبحت الرؤية في بعض المناطق لا تتجاوز عشرات الأمتار.
الغريب أن وزارة البيئة وصفت الأمر بأنه “ظاهرة طبيعية”.
أي طبيعة هذه التي تُصيب الناس بالاختناق، وتغلق السماء بالدخان، وترفع حالات الربو والالتهاب الصدري إلى مستويات غير مسبوقة؟
هذا ليس طقسًا…
إنه فشل حكومي، أو تعامٍ متعمد عن الحقيقة.
اتهامات خطيرة: هل تحرق أمانة بغداد النفايات في معسكر الرشيد؟
يزداد الغضب حين تخرج معلومات من مسؤولين يؤكدون أن جزءًا من هذا الدخان ناتج عن حرق أمانة بغداد لكميات كبيرة من النفايات داخل منطقة معسكر الرشيد، وهي منطقة تقع في قلب العاصمة وبين ملايين السكان.
إن صحّ هذا الكلام، فنحن أمام جريمة بيئية صريحة لا يمكن السكوت عنها.
والسؤال الذي يفرض نفسه:
لماذا تلجأ الأمانة إلى الحرق، بينما الدولة استوردت معامل فرز النفايات بملايين الدولارات؟
أين ذهبت هذه المعامل؟
هل هي معطّلة؟ غير مُشغّلة؟ أم أنها موجودة فقط على الورق والمشاريع الوهمية؟
إذا ثبتت عملية الحرق، فيجب مساءلة أمين بغداد مباشرة، لأن حرق النفايات وسط العاصمة هو اعتداء على حياة السكان، وليس مجرد خطأ مهني أو إداري.
سنوات من التجاهل… والنتيجة مدينة مريضة
هذه الكارثة ليست وليدة يوم واحد.
التلوث في بغداد يمتد لسنوات طويلة، وسط صمت حكومي غريب وإهمال مستمر، وكأن صحة العراقيين آخر ما تفكر به الدولة.
والنتيجة واضحة:
ازدياد الأمراض التنفسية بشكل غير مسبوق
اختناق يومي يشكو منه حتى الأصحّاء
رائحة خانقة تعكّر المزاج وتخلق توترًا نفسيًا شديدًا
سماء تغطيها سحابة سوداء تجعل العاصمة تبدو كمدينة منكوبة
لقد أصبح من لا يعاني من أزمة صدرية… يعاني من أزمة نفسية.
من يتحمل المسؤولية؟
الحكومة تتحمل المسؤولية كاملة:
مسؤولية سنوات من الإهمال، وغياب الخطط، وعدم تشغيل معامل الفرز، وترك المولدات تسيطر على الهواء الذي نتنفسه، وغضّ النظر عن عمليات الحرق العشوائي، وتبرير كل شيء تحت عنوان “الظواهر الطبيعية”.
هذه ليست ظاهرة…
إنها نتيجة تراكم فساد وإهمال وتقصير.
وإن كانت بعض الجهات تتعمّد الحرق لخفض التكاليف أو إهمال المشاريع، فالمسألة تتحول من سوء إدارة إلى مؤامرة على صحة الناس، حتى لو لم يكن ذلك مخططًا بشكل مباشر.
خاتمة: إنقاذ بغداد واجب وليس خيارًا
إن بغداد اليوم ليست بحاجة إلى بيانات مطمئنة، بل إلى خطة طوارئ وطنية توقف:
الحرق العشوائي
فوضى المولدات
انفلات عوادم السيارات
تعطيل معامل فرز النفايات
صمت وزارة البيئة
لقد أصبح هواء بغداد سلاحًا صامتًا يهدد حياة الملايين، ولن تُحل المشكلة ما دامت الحكومة تتعامل معها كظاهرة عابرة.
بغداد تختنق…
والسؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم بصوت عالٍ:
هل ما يجري إهمال قاتل… أم جريمة تُرتكب بحق شعب بأكمله؟
تحقيق
الكاتب والخبير السياسي
حسن درباش العامري






