آخر الأخبار
الأخبار الدولية

جامعة السوربون الفرنسية تعلن انسحابها وعدم اعترافها بنظام التصنيفات العالمية

24..متابعة

في خطوةٍ اعتُبرت تاريخية في مسار إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي في أوروبا، أعلنت جامعة السوربون في باريس رسميًا، في 16 سبتمبر 2025، انسحابها من تصنيفات “تايمز للتعليم العالي” (Times Higher Education – THE)، ابتداءً من عام 2026. وقد برّرت الجامعة قرارها هذا برغبتها في إعادة تعريف معايير تقييم البحث العلمي، بما يتوافق مع مبادئ الشفافية، والانفتاح، والعدالة المعرفية، بعيدًا عن الأنظمة التجارية المغلقة التي تحكم التصنيفات الجامعية التقليدية.

كما جاء في البيان الصادر عن الجامعة أن قرارها بالانسحاب يهدف إلى تعزيز مبدأ العلوم المفتوحة (Open Science) وإصلاح أساليب تقييم البحوث الأكاديمية، معتبرةً أن أنظمة التصنيف الحالية تعاني من نقصٍ في الشفافية واعتمادها على مؤشرات قد تكون معيبة أو ذاتية التقدير. وأوضحت السوربون أنها ستتجه إلى التخلي عن قواعد البيانات المملوكة تجاريًا مثل سكوبس (Scopus) وويب أوف ساينس (Web of Science)، لصالح البنى التحتية المفتوحة مثل OpenAlex، التي تتيح وصولاً حُرًّا للبيانات وإمكانية تقييم علمي أكثر دقّة وشفافية.

أولاً: خلفية القرار

يأتي هذا القرار في سياق أوروبي أوسع، حيث بدأت العديد من المؤسسات الأكاديمية الكبرى بمراجعة اعتمادها على تصنيفات عالمية مثل Times Higher Education وQS وShanghai Rankings. وتُعد جامعة السوربون من أقدم الجامعات وأكثرها رمزية في أوروبا، إذ تأسست عام 1253، وهي اليوم تمثّل إحدى ركائز النظام الجامعي الفرنسي.

لكن في السنوات الأخيرة، بدأت الجامعة تُعبّر عن استيائها من غموض المنهجيات التي تستخدمها هيئات التصنيف، خصوصاً في ما يتعلق بطريقة احتساب المؤشرات ووزنها، واعتمادها على معايير كمية سطحية مثل عدد الاستشهادات (Citations) أو السمعة الأكاديمية، على حساب جودة التعليم، وأثر البحث، والمشاركة المجتمعية. كما أشار عدد من الخبراء إلى أنّ أنظمة التصنيف العالمية تُعطي الأولوية لمؤشرات قابلة للقياس الرقمي، في حين تهمل القيمة الفعلية للبحث العلمي وتأثيره الإنساني والمعرفي.

ثانيًا: مضمون البيان الرسمي

في بيانها الصادر بتاريخ 16 سبتمبر 2025، أوضحت السوربون أنها لن تقدّم بعد الآن أي بيانات أو معلومات إلى مؤسسة Times Higher Education اعتبارًا من عام 2026، سواء لتصنيف الجامعات العالمية أو لتصنيفات التخصصات أو تصنيفات التأثير المجتمعي (Impact Rankings).

وأكدت الجامعة أن هذا القرار يأتي في إطار التزامها باتفاقية “تحالف إصلاح تقييم البحث العلمي” (Coalition for Advancing Research Assessment – CoARA) التي وقّعتها عام 2022، وهي مبادرة أوروبية تدعو إلى تجنّب الاعتماد على التصنيفات الجامعية التجارية في تقييم الأداء الأكاديمي. وتنص الاتفاقية على ضرورة اعتماد نماذج تقييم أكثر شمولية وإنسانية تركز على أثر البحث في المجتمع، وعلى جودة التعاون العلمي، وليس على مجرد الأرقام والإحصاءات.

وفي نص البيان الإنجليزي الرسمي الذي نُشر على الموقع الإلكتروني للجامعة، جاء ما يلي:

“Sorbonne University has decided to withdraw from the Times Higher Education (THE) World University Rankings starting in 2026, in order to promote open science and reform research assessment. The institution cites concerns over the rankings’ lack of transparency and the use of potentially flawed or subjective metrics. It also plans to move away from proprietary databases such as Scopus and Web of Science in favour of open infrastructures like OpenAlex.”

ثالثًا: انتقاد “الصناديق السوداء”

وصف رئيس الجامعة نظام التصنيفات العالمي بأنه “صندوق أسود” (Black Box)، في إشارة إلى غياب الشفافية في طريقة جمع البيانات وتحليلها، وصعوبة التحقق من النتائج أو إعادة إنتاجها. وانتقد المنهجيات التي تعتمد عليها هذه التصنيفات بوصفها غير قابلة للتدقيق العلمي، وتعتمد على مصادر تجارية مغلقة لا تتيح بياناتها للباحثين بحرية، مثل Scopus وWeb of Science.

كما أوضح البيان أنّ السوربون ستتوقف عن تقديم البيانات المطلوبة لإدراجها في مختلف قوائم تصنيفات THE (التصنيف العالمي، وتصنيفات التخصصات، وتصنيفات الأثر) اعتبارًا من عام 2026. وأضاف أنّ هذه الخطوة تأتي في إطار اتجاهٍ عالمي متصاعد، حيث بدأت العديد من الجامعات حول العالم تشُكّك في مصداقية وموضوعية أنظمة التصنيف التقليدية.

رابعًا: خطوة ضمن حركة عالمية

قرار السوربون ليس معزولًا، بل يأتي ضمن موجة أوروبية متنامية بدأت بها جامعات مثل زيورخ وغوتنغن وليدن، التي عبّرت عن رفضها للمنهج الكمي المفرط في تقييم التعليم والبحث. وترى هذه المؤسسات أنّ التصنيفات العالمية، بدل أن تشجع على التميّز، أصبحت تدفع الجامعات نحو التسليع الأكاديمي والتنافس الدعائي، مما يؤدي إلى اختزال المعرفة في أرقامٍ وشعاراتٍ تجارية.

ويشير باحثون في السياسات التعليمية، مثل أولئك في The Conversation وScience|Business، إلى أن هذه الخطوة من السوربون قد تفتح الباب لإعادة تشكيل معايير التقييم الأكاديمي عالميًا، بحيث تصبح أكثر عدالةً وواقعيةً للجامعات الصغيرة والمتخصصة، التي غالبًا ما تتراجع في التصنيفات بسبب افتقارها إلى الموارد المادية الضخمة، لا بسبب ضعفها العلمي.

خامسًا: الدلالات المستقبلية

يمثل انسحاب السوربون تحديًا رمزيًا وفكريًا كبيرًا للنظام التصنيفي القائم، فهو يعيد النقاش إلى جوهر السؤال:

ما الهدف من الجامعة؟ هل هو الظهور في القوائم العالمية، أم الإسهام في المعرفة والعدالة الاجتماعية؟

بهذا القرار، تؤكد السوربون أن الجامعة ليست شركة تنافسية، بل فضاء للمعرفة الحرة، وأن قيمة البحث العلمي تُقاس بمدى خدمته للإنسان والبيئة والمجتمع، لا بعدد النقاط التي يمنحها نظام تصنيف تجاري مغلق.

ومن المرجّح أن يشجّع هذا الموقف جامعاتٍ أخرى، بما فيها الجامعات العربية، على إعادة النظر في سياساتها تجاه التصنيفات الدولية، وتبنّي نموذجٍ أكثر استقلالية وشفافية يُعيد للتعليم العالي رسالته الأخلاقية والعلمية الحقيقية، ويُعيد الاعتبار لمبدأ “المعرفة من أجل الصالح العام” لا من أجل التسويق المؤسسي أو المردود الإعلامي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى