آخر الأخبار
ألمقالات

أزمة المياه في العراق… بين غياب القرار وضياع الحق السيادي

أزمة المياه في العراق… بين غياب القرار وضياع الحق السيادي

د.علياء آل هذال/مركز العلا للتدريب والتنمية

يشهد العراق في الوقت الراهن أزمة مائية حقيقية تُعد من أخطر التحديات البيئية والاقتصادية التي تواجه الدولة الحديثة. هذه الأزمة لم تكن مفاجئة، بل جاءت نتيجة تراكم سنوات طويلة من الإهمال المؤسسي، وضعف الإدارة القانونية للموارد الطبيعية، وغياب الرؤية الاستراتيجية لدى صانع القرار.

لقد أجمعت البحوث العلمية والدراسات البيئية المحلية والدولية على أن منسوب المياه السطحية والجوفية في العراق يشهد تراجعاً مقلقاً، فيما تتزايد معدلات التصحر وانكماش الأراضي الزراعية بمعدلات تنذر بانهيار بيئي واسع النطاق. ورغم كل التحذيرات الصادرة من المختصين والناشطين والإعلاميين، لم نجد تحركاً يتناسب مع حجم الكارثة، وكأن القرار السياسي في هذا الملف الحيوي يعيش حالة من الغياب التام.

من الناحية القانونية، يُعد الماء مورداً سيادياً خاضعاً لحماية الدستور والقوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها العراق. كما أن القانون الدولي للمجاري المائية غير الملاحية (اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997) يمنح العراق حقاً مشروعاً في الانتفاع المنصف والمعقول من الأنهار المشتركة، مع إلزام الدول المتشاطئة بعدم الإضرار الجسيم بدولة المصب.
ومع ذلك، فإن التقصير في تفعيل الأطر القانونية والدبلوماسية أدى إلى فقدان العراق لأجزاء كبيرة من حصصه المائية، دون أن يقابل ذلك موقف قانوني واضح أو مفاوضات فاعلة ترتقي إلى مستوى الخطر المحدق بالأمن المائي الوطني.

إن ما يجري اليوم ليس مجرد أزمة بيئية، بل انتهاك صريح لحق الإنسان في الماء، وهو حق تكفله المواثيق الدولية كالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما يمثل غياب الإدارة الرشيدة للمياه إخلالاً بمبدأ الاستدامة المنصوص عليه في التشريعات البيئية العراقية، وفي مقدمتها قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) لسنة 2009، الذي يوجب على الدولة اتخاذ التدابير اللازمة لصون الموارد الطبيعية ومنع تلوثها أو هدرها.

إن استمرار حالة الصمت والارتباك المؤسسي في التعامل مع هذا الملف الحساس يشكل مسؤولية قانونية وسياسية يتحملها صانع القرار قبل غيره. فإدارة المياه ليست ترفاً إدارياً، بل مسألة سيادة وطنية تتعلق بحق البقاء ذاته.
ولذلك، فإن المطلوب اليوم ليس لجاناً شكلية أو خططاً مؤقتة، بل استراتيجية وطنية ملزمة تتضمن:

  1. تفعيل الدبلوماسية المائية وفق الأطر القانونية الدولية.

  2. سن تشريعات رادعة للهدر والتجاوز على الموارد.

  3. إنشاء مجلس وطني أعلى للمياه يتمتع بالاستقلالية الفنية والقانونية.

  4. توجيه الاستثمارات نحو تقنيات الري الحديثة وتحلية المياه واستصلاح الأراضي المتضررة.

التوصيات القانونية المقترحة لمعالجة أزمة المياه في العراق

  1. إعادة تفعيل الدبلوماسية المائية
    من خلال تشكيل فريق تفاوضي قانوني – فني متخصص، يتولى متابعة ملف المياه المشتركة مع دول المنبع وفقاً لأحكام اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية لعام 1997، بما يضمن حماية الحقوق السيادية للعراق ومنع الإضرار الجسيم بمياهه الإقليمية.

  2. سن تشريعات وطنية ملزمة لإدارة الموارد المائية
    تتضمن تحديد حصص واضحة للقطاعات الزراعية والصناعية والاستهلاكية، وتجريم الهدر والتجاوز على شبكات الري والمياه الجوفية، مع فرض عقوبات إدارية وجنائية بحق المخالفين.

  3. إنشاء “المجلس الوطني الأعلى للمياه”
    كهيئة مستقلة ترتبط برئيس مجلس الوزراء، وتضم خبراء قانونيين وبيئيين وهندسيين، تتولى رسم السياسات المائية، ومتابعة تنفيذ الاتفاقيات، ووضع قاعدة بيانات وطنية موحدة للموارد المائية.

  4. إدماج مبدأ الأمن المائي ضمن التشريعات الوطنية
    من خلال تعديل قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) لسنة 2009، وإضافة نصوص تُعَرّف الأمن المائي كأحد أركان الأمن القومي، وتُلزم الدولة بوضع سياسات وقائية واستباقية لحماية الموارد من الاستنزاف والتلوث.

  5. تفعيل المساءلة القانونية للمقصرين
    عبر إحالة الملفات الخاصة بإهمال إدارة المياه، أو سوء تنفيذ المشاريع المائية، إلى الجهات القضائية المختصة، عملاً بمبدأ المسؤولية الإدارية والجنائية عن الإضرار بالمصلحة العامة المنصوص عليه في التشريعات العراقية.

  6. اعتماد التقنيات الحديثة في إدارة المياه
    وتشجيع الاستثمار في مشاريع التحلية، وإعادة تدوير المياه العادمة، والري بالتنقيط، بما ينسجم مع معايير التنمية المستدامة الواردة في أجندة الأمم المتحدة 2030.

  7. تعزيز الشفافية والمشاركة المجتمعية
    من خلال نشر بيانات الموارد المائية، وإشراك المجتمع المدني والباحثين في مراقبة السياسات المائية، تحقيقاً لمبدأ الحق في الوصول إلى المعلومات البيئية.

ختاماً،
يبقى السؤال معلقاً في وجه صانع القرار:
إلى متى يبقى الماء ملفاً مؤجلاً في دولةٍ قامت حضارتها على النهرين؟
إن التاريخ لا يرحم المتقاعسين، والأنهار لا تنتظر من تأخر في الدفاع عنها.
فمن لا يحمي ماءه… لا يحمي وطنه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى