آخر الأخبار
ألمقالات
أخر الأخبار

الكلمة ومحنة الوعي

كتب رياض الفرطوسي

الكلمة ليست زينة فكرية، ولا وسيلة لتجميل الخراب. الكلمة ساحة قتال. من لا يملك شجاعة الدخول إليها عارياً من الخوف، فليتركها. لأن الكتابة في هذا الزمن ليست فعلاً ثقافياً فحسب، بل موقفاً من كل ما يُراد لنا أن نصمت حياله.

في العراق، الوعي يُختبر كما يُختبر الصبر في النار. فهنا لا يكفي أن تكتب لتُقال الحقيقة، بل لتُنتزع من بين أنياب التزييف. كثيرون يكتبون لتسكين الوجع أو لشراء السلام مع الذات، لكن الوعي لا يُرمم بالمسكنات، بل بالصدام مع ما اعتدناه حتى صار يقتلنا بصمته.

الكاتب الحقيقي لا يعيش في برجٍ من الكلمات المهذبة، بل في شوارع الوعي الموحلة. يكتب وهو يعلم أن الصدق موجع، وأن مواجهة القبح تحتاج قسوة من نوعٍ آخر: قسوة الرؤية، لا قسوة الإهانة. هو لا يهادن الغفلة، ولا يغازل السلطة أو الجمهور. يكتب لأن الكلام الذي لا يُوجع، لا يُوقظ.

الكلمة التي لا تُربك القارئ، لا تستحق أن تُقال. والكاتب الذي لا يخاف من غضب الناس، فقط من سكوتهم، هو الذي يترك أثراً. أما أولئك الذين يحوّلون الكتابة إلى ترفٍ لغوي أو إلى مسرح للوجاهة، فإنهم يضيفون ضجيجاً إلى ضجيج العالم.

محنة الوعي تبدأ حين تصبح اللغة درعاً للهرب، لا مرآة للمواجهة. حين نستخدم الكلام لتزيين الفراغ، لا لملئه. الوعي لا يُورث، ولا يُشترى، بل يُكتسب بالوجع والتأمل والمساءلة. لا يولد من التكرار، بل من السؤال الذي يظل واقفاً في منتصف الرأس كخنجرٍ من الضوء.

القارئ بدوره ليس بريئاً من المعركة. القراءة ليست هواية في مقهى أو عادة نوم، بل فعل مقاومة ضد الغفلة. أن تقرأ يعني أن تضع نفسك موضع الاختبار، أن تتساءل: هل ما أراه هو فعلاً ما يحدث؟ هل ما أؤمن به ما زال يستحق الإيمان؟

في هذا البلد الذي أرهقته الشعارات، صارت الكلمة إما صدى أو صمتاً. لا مكان للرمادي. من يكتب بضميرٍ ناعم يضيع صوته بين الركام، ومن يكتب بضميرٍ حيّ يُتّهم بالمبالغة. ومع ذلك، لا مفر من المحاولة. لأن الصمت في وجه الخراب خيانة، ولأن الحقيقة، مهما بدت خشنة، هي الوجه الآخر للرحمة.

الوعي ليس شعاراً، بل سلوك يومي، مقاومة ضد العادة والبلادة والخوف. حين نعيد للسؤال مكانته، حين نصغي لا لنتفق بل لنفهم، نبدأ أول الطريق نحو شفاءٍ طويل. أما من يكتب ليعجب الناس، فليعلم أنه اختار الطريق السهل: طريق الهدوء في زمنٍ يحتاج إلى كلمات تقرع الحديد.

الكلمة، إن لم تكن جرس إنذار، فلتكن على الأقل مرآة لا ترحم. لأننا حين نتصالح مع قسوة الحقيقة، نكتشف أن هذه القسوة هي أصدق وجوه الرحمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى