تحت جلد الوطن


كتب رياض الفرطوسي
لا يبدأ المنفى من الحدود، بل من الداخل. من اللحظة التي يشعر فيها المرء أنه يعيش وسط الناس ولا يراهم، يتحدث بلغتهم ولا يسمعونه. الوطن، في ظاهره بيت، لكنه أحياناً يتحوّل إلى صمتٍ واسع، يختبر فيه الإنسان قدرته على البقاء متيقظاً دون أن ينهار.
تحت جلد الوطن، تختبئ حكايات كثيرة لا تُروى، لأن الكلام عنها يحتاج لغة أخرى، أكثر صدقاً وأقل خوفاً. اللغة التي تعلمناها في المدارس تُشبه الزيّ الرسمي: أنيقة، لكن ضيقة على القلب. أما اللغة التي تسكن أرواحنا، فهي التي لا تجد إذناً لتتكلم، لأنها تخرج عن إيقاع الجماعة وتكشف ما نحاول التستر عليه من هشاشة وحنين.
في الحياة اليومية، يتنقّل الإنسان بين أدوارٍ كثيرة ليتكيف. يضحك في الوقت المقرر، يكتب بما يناسب المناسبة، يمدح ما يُنتظر منه أن يمدحه، لا لأنه منافق، بل لأنه يريد أن يعيش بسلام. ومع ذلك، يظل في داخله صوت صغير يهمس بأن الطمأنينة التي تُشترى بالصمت لا تدوم.
حتى التاريخ عندنا يتحدث بصوتٍ واحد، كما لو كان حارساً للنظام العام للذاكرة. لا أحد يعترض على الوقائع، بل على طريقة سردها. يُعاد طلاء الماضي كل جيل ليبدو أكثر انسجاماً، كأن الزمن يجب أن يكون بلا زوايا حادة ولا أخطاء. ومع الوقت، تصبح الذكريات مثل الصور القديمة التي تُلمَّع أكثر مما تُفهم.
أما الجسد، فقصته أخرى. منذ زمن طويل، لم يعد الجسد مجرد كيانٍ مادي، بل مرآة تُختبر فيها الأخلاق والنيّات. نعامله بحذر، ونخفي رغباته كما نخفي الأسرار العائلية. ومع أن الحياة تبدأ منه، إلا أننا نصرّ على التعامل معه كأنه عبء يجب تأديبه لا الاحتفاء به. هكذا يتحول الجسد إلى منفى آخر، يسكننا من الداخل ولا نجرؤ على الاعتراف به.
والدين، وهو المفترض أن يكون مأوى للرحمة، صار عند كثيرين مساحة لتعدد التأويل أكثر من كونه مصدراً للسكينة. كلٌ يرى فيه صورته، لا صورته الإلهية. وربما ليس في هذا خلل بقدر ما هو علامة على أن الإنسان لا يزال يبحث عن الله كما يبحث عن ذاته: في عتمةٍ يعرفها أكثر مما يفهمها.
وفي زاوية أخرى من هذا المشهد، يقف المثقف. لا في موقع المعارض ولا المؤيد، بل في المسافة بين الاثنين؛ يحاول أن يكتب بلغةٍ لا تُخيف أحداً ولا تُخدّر أحداً. يعيش بين الواقع والنص، كمن يحرس فكرة في زمنٍ سريع النسيان. لا يريد أن يغيّر العالم، بل أن يذكّر الناس بأنهم ما زالوا قادرين على التفكير.
وسط كل ذلك، يبقى شيء يشبه الرجاء. فالوطن، رغم تشققات الذاكرة وضجيج الكلام، ما زال يحتفظ بحرارة القلب في عمقه. هناك دائماً أناس يزرعون، يعلّمون، يربّون أبناءهم على الحلم، يكتبون بصدقٍ في زمنٍ مربك. هؤلاء لا يصنعون المعجزات، لكنهم يمنعون الانطفاء الكامل.
ربما لا نحتاج إلى وطنٍ مثالي، بل إلى وطنٍ يعترف بنا كما نحن: بخوفنا وشكوكنا وضعفنا وأملنا. وطنٍ يسمح لنا أن نخطئ دون أن نفقد مكاننا فيه، وأن نحلم دون أن نخاف.
الوطن الحقيقي ليس الذي لا يوجع، بل الذي نقدر على البوح بوجعنا فيه.
تحت جلد الوطن، يجري دم كثير.
لكنه دم الحياة، لا الخوف.




