قناع الذات المكسورة


كتب رياض الفرطوسي
هناك من يسيرون في الحياة كأنهم في عرض مسرحي طويل، تتجدد أدواره حسب الظروف، يضعون على وجوههم أقنعة مصقولة من الخداع والتمويه، يزينونها بابتسامات مصطنعة وبريق كاذب، بينما في أعماقهم يسكن الصمت المظلم. هؤلاء ليسوا مجرد كاذبين عابرين أو خاطئين عاديين، بل ذوات مشوهة، تمزج الغطرسة بالضعف، والاستعراض بالفراغ الداخلي، وتستمد حياتها من التظاهر المستمر، متعطشة للإطراء والاعتراف الخارجي، عاجزة عن رؤية ذاتها الطبيعية.
الإنسان الواعي، على العكس، يزداد إدراكه للعالم ولذاته، وتزداد معه قدرته على الرحمة والتسامح، لأنه فهم طبيعة الحياة والإنسان، وعرف كيف يبتعد عن شباك الغضب والانتقام. أما الكاذب القهري، فكل كذبة يختلقها تحفر فجوة إضافية بينه وبين الحياة الحقيقية. الكذب ليس مجرد خطأ، بل نظام معقد من التبريرات، سلسلة لا تنتهي من التلاعب بالذات وبالآخرين، يحول صاحبه إلى سجين داخلي، يقتل فيه شيئًا من إنسانيته في كل يوم.
هؤلاء ليسوا أشراراً بالمعنى السطحي، بل شخصيات مسرحية مصطنعة، مبنية على أعمدة من الغطرسة والخداع، تخفي تحتها ذاتاً محطمة. كل عظمة استعراضية أو شعور بالقوة يغذي الحاجة المستمرة للإطراء، ويعمّق التنافر بين ما يريدون أن يكونوا عليه وبين واقعهم الداخلي. حياتهم رحلة قنص دائم، لا تعرف السكينة، بل تتوه في تمثيل أدوار لا تنتهي، يضيع فيها الفرد بين وهم القوة وعجز الروح.
في المقابل، الإنسان الطبيعي، المتوازن، يعيش انسجاماً داخلياً حقيقياً. اللطف لديه ليس استعراضاً، بل انعكاس لصفاء روحه. جماله الداخلي يظهر في تصرفاته ونظرته للآخرين، حتى في مواجهة خصومه، فتسود السكينة والطمأنينة. إنه قادر على الحب والاحترام لأنه عاش تجربة الذات الحقيقية، ولم يُغلق نوافذ روحه بالحواجز الكاذبة، ولم يغرق في تمويه الذات أو التظاهر المستمر.
في عمق هذا القناع، تتقاطع الغطرسة بالضعف، والتمويه بالفراغ الداخلي، ليخلق عالماً من الصمت المعذب والخسارة الخفية. وراء البريق الظاهر يكمن الألم، وحطام الذات الطبيعية ينتظر من يلتقطه، من يرى صدقه، ويعيد إليه شيئاً من الحياة التي فقدها.
الوعي والصدق مع الذات، حتى مع الأخطاء، يمنحان الحرية الداخلية، ويؤسسان لعلاقات حقيقية مع الآخرين، دون أن يترك للظلام مجالًا ليغرس جذوره. أما الكذب، فهو ليس مجرد فعل خاطئ، بل مرض عضوي للنفس، يعكس صراعاً داخلياً ممتداً، يستنزف طاقة الإنسان ويقتل فيه جزءاً من إنسانيته يوماً بعد يوم.
في النهاية، وراء هذا القناع البراق، يتكشف صراع مستمر بين الحقيقة والوهم، بين الذات الطبيعية والذات المصطنعة، بين الألم والتمويه، صراع لا يراه إلا من امتلك الجرأة للنظر إلى ما وراء الأقنعة، وفهم ما تبقى من إنسانية مخفية تنتظر من يراها ويستعيدها.




