آخر الأخبار
ألمقالات

حين تضيق اللغة تتسع الفوضى

 

كتب رياض الفرطوسي

ليست الريح ما تصنع مصير السفن، بل اليد التي تعرف متى ترفع الشراع ومتى تكفّ عن مجابهتها. في زمنٍ يتشابك فيه الضجيج بالخطاب، تصبح القدرة على التمييز بين الفكرة والشتيمة نوعاً من تهذيب الشجاعة، لا من ضعفها. احترام المسافات، كما تقول فيرا بيفر (( كاتبة ومحللة نفسية فرنسية المولد بريطانية الإقامة، متخصّصة في العلاج النفسي الإيجابي وتقنيات التفكير التحفيزي))، موقف ثقافي قبل أن يكون سلوكاً. لكنه لا يعني الانسحاب، بل ضبط النبرة دون خيانة المبدأ. نحن في النهاية شركاء في أرض وتاريخ ومصير، لا في معركة كرامات شخصية. وحين تتحول النقاشات العامة إلى مهاترات، نفقد المعنى الذي من أجله بدأ الحوار أصلاً.

العالم صار غرفة واحدة، كل ارتعاشة غضب تُبث مباشرةً أمام ملايين العيون. ما من سرّ يُقال في الظل إلا ويُعرض على الشاشات بعد لحظة. ومع هذا الانكشاف المفرط، تزداد الأقنعة بدلاً من أن تقل، وتغدو الكلمات دروعاً للذات لا نوافذ للفهم.
في هذا المناخ، يصبح أي اختلاف مشروع حرب صغيرة، لا ساحة تفكير. يُلقى كل طرف في خندقه: هذا وطني، وذاك عدوّ، ثالث “ما يُسمّى”، ورابع “لا يفهم”. وحين يفقد الخطاب اتزانه، يتحول الوطن كله إلى قاعة محاكمات متبادلة.

الحوار بين مؤسسات يفترض بها أن تحمل راية الثقافة، لا يجوز أن ينحدر إلى مستوى الردح. فالمشكلة ليست في حدة اللهجة، بل في غياب العمق وراءها. حين يتبادل من يُفترض أنهم رموز فكرية التهكم بدلاً من الحجة، فذلك يعني أن اللغة تخلت عن وظيفتها في بناء المعنى.
الكلمة التي وُجدت لتقرب، صارت أداة لإلغاء الآخر. وهكذا يتسع الجرح الصغير حتى يصير صدعاً في الوعي العام.

لا يمكن لوطن أن يُبنى بلغة مهينة، ولا لمؤسسة أن تحافظ على هيبتها إن فقدت لياقة الكلام. النقد فعل شجاعة لا فعل ازدراء. والرد لا يكون بالتهكم، بل بالحجة، لأن السخرية حين تصدر من موقع القوة تتحول إلى إهانة، وحين تصدر من موقع الضعف تصبح استجداءً للانتباه.
كلاهما يخسر، واللغة هي الضحية الأولى.

لقد صارت المهارة اليوم في من يرفع صوته أكثر، لا في من يفكر أعمق.
كأن البلاغة تحولت إلى سباق في سرعة الرد، لا في جودة الرؤية. ومع ذلك، ما زال يمكن إنقاذ ما تبقى من المعنى. كل ما نحتاجه هو قليل من الصبر وكثير من الاحترام: احترام الفكرة حتى لو صدرت من خصم، واحترام الذات حتى لا ننزلق إلى ما نحاربه.

إن الخطر الحقيقي ليس في التصريحات ولا في البيانات، بل في المناخ الذي يسمح لهما بأن يُستقبلا كأمر عادي. حين نكف عن الدهشة من فجاجة الخطاب، نكون قد اعتدنا العتمة.
حينها لا يبقى للفن أو للثقافة معنى، لأنهما يُولدان من النور، لا من الغبار.

في النهاية، تبقى الريح هي الريح. ما يهم حقاً هو من يجرؤ على فتح الأشرعة، لا من يكتفي بشتم العاصفة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى