الأربعين الحسيني… حينما يبذل العراقيون أرواحهم قبل أموالهم فداءً للحسين


رسول حسين أبو السبح
في كل عام، يشهد العالم الإسلامي مشهداً قلّ نظيره في التاريخ الحديث؛ حيث تحتشد ملايين القلوب والوجوه والأقدام في مسيرة تمتد لمئات الكيلومترات باتجاه كربلاء، إحياءً لذكرى أربعينية الإمام الحسين عليه السلام. غير أن ما يميز هذه الزيارة، إلى جانب حجمها وأثرها الروحي، هو مشهد التضحية الفريد الذي يقدمه الشعب العراقي على طول طرقات الزائرين.
عشق لا يعرف الحدود… من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ومن بيوت الطين إلى قصور المدن، يخرج العراقيون كبارًا وصغارًا، نساءً ورجالًا، حاملين راية الحسين عليه السلام، ليؤكدوا أنهم لا يزالون على العهد. العهد الذي قطعه الأحرار مع إمام الحرية، حين قال: «هيهات منا الذلة».
هنا لا حديث عن الطوائف، ولا مكان للانقسامات. الجميع في خندق الحسين. موكب هنا يُقدّم الطعام، وآخر يُقدّم الدواء، وثالث يغسل أقدام الزائرين، ورابع يفرش الأرض ليلاً لمن لا مأوى له. حتى من لا يملك شيئًا، يقدّم ابتسامته وخدمته، أو يبيع أغراضه القليلة ليشعل موقدًا يطهى عليه قدر حساء للغرباء.
عراقيون يتصدقون بالفقر… تروي امرأة من النجف، وقد نصبت موكبًا صغيرًا قرب بيتها: “أبيع ذهب بناتي كل سنة لأقدّم للزوار شيئًا يليق بالحسين، لأن من أعطى كل شيء لله لا يُقابَل بالقليل”. قصص مثل هذه تتكرر في الناصرية، والبصرة، والموصل، وكل مدينة عراقية شاركت وما زالت تشارك في “كرنفال الولاء”.
وفي مشهدٍ آخر، شاب من كربلاء رفض أن يُذكر اسمه، يروي كيف استدان المال ليقيم مائدة يومية لزوار الأربعين: “أدين للحسين بكل شيء، ومن لا يملك، فليُقرض الله، والله لا ينسى القرض”.
فلسفة العطاء في مدرسة كربلاء… زيارة الأربعين ليست مجرد مشي أو بكاء على مظلوم، بل هي تجسيد حي لفلسفة كربلاء في التضحية، والعطاء، والإيثار. إنها امتداد عملي لقول الإمام علي عليه السلام: “ما جاع فقير إلا بما مُنع به غني”. هنا يتجسد العدل السماوي حين يُطعم الفقراء الفقراء، ويُغني البسطاء الزائرين عن المترفين.
إنها ثورة لا تزال تنبض بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا، لكنها ليست ثورة غضب فقط، بل ثورة حب، حبٌ ينمو في قلوب العراقيين ويتحول إلى أفعال تُذهل العالم. مشهد يتحدى فيه الجوع والفقر والألم، كي تبقى راية “يا حسين” مرفوعة.
زيارة تتحدى الواقع وتُعانق الخلود… رغم الظروف الأمنية، والتحديات الاقتصادية، وغياب الدعم الرسمي أحيانًا، فإن العراقيين لا يتراجعون. بل يزدادون إصرارًا. فكل زيارة هي تجديد عهد، وكل موكب هو وثيقة وفاء، وكل دمعة هي توقيع على بيعة لا تنكسر.
زيارة الأربعين، إذًا، ليست مناسبة دينية فحسب، بل هي ملحمة إنسانية عالمية، كتبها الحسين بدمه، ويُعيد العراقيون كتابتها كل عام بعرقهم ودموعهم ولقمة عيشهم.
 




