العراق… من طين الحضارة إلى شمس النهوض


كتب رياض الفرطوسي
من بين ضفافٍ روَت الأرض بالدهر، وسماءٍ شهدت ميلاد التاريخ، يقف العراق كأنه لحظة الخلق الأولى، الطين الذي صاغ الإنسان، والفكر الذي أنار الوجود.
هنا، حيث وُلد الحرف الأول، وسُطّرت الشرائع، وعُرفت العدالة قبل أن تُترجمها الأمم، لم تكن الحضارة حدثاً عابراً، بل كانت قدراً يسكن في ترابٍ ناطقٍ بالدهشة.
العراق… ليس اسماً جغرافيّاً، بل معنى يتجاوز الجغرافيا.
إنه الحاضن الأول للإنسان حين تعلم الزراعة والكتابة، وهو المرآة التي انعكست فيها صورة العالم قبل أن يعرف العالم صورته.
من سومر وبابل وأكد وآشور، انطلقت الأنهار الفكرية التي شكّلت ملامح الإنسانية، ومن أوروك خرج الوعي الأول، ومن أور تعلّمت الأرض كيف ترفع معابدها نحو السماء.
في العراق، كانت المرأة أول كاتبة في التاريخ — ((إنخيدوانا)) — كاهنة الحب والإبداع، وهناك وُلد القانون مع أوركاجينا ليضع للعدالة ميزانها الأول، وهناك أيضاً أشرقت أسطورة جلجامش، لتُعلن أن الإنسان خُلق للبحث عن الخلود لا للاستسلام للفناء.
كل حجر في العراق يروي حكاية،
وكل نخلةٍ تحفظ في جذورها لحن الفرات،
وكل طلعة شمس على أرضه تذكّر العالم بأن النور القديم لم ينطفئ يوماً، بل كان ينتظر لحظة النهوض من جديد.
العراق… هذا الوطن الذي ينهض كل مرة من تحت الرماد كأنه يختبر ذاته ليزداد إشراقاً.
توالت عليه الحروب والمحن، فتعلم منها الصبر كما يتعلم الطين قسوة النار ليصير خزفاً خالداً .
لم تُطفئه العواصف، ولم تُبدده المؤامرات، لأنه ببساطة من طينة لا تُكسر، ومن جذورٍ لا تُقتلع.
اليوم، العراق يدخل فجراً جديداً من النهوض، لا لأن العالم قرر أن ينهض، بل لأن أبناءه قرروا أن يتذكروا من هم.
في عيون شبابه تتلألأ المدن القديمة، وفي ضمير نسائه تنبت الحكمة من رحم المعاناة، وفي قلوب علمائه وفنانيه وشعرائه يشتعل السؤال الأبدي:
كيف نُعيد للحضارة نبعها الأول؟
إن نهوض العراق ليس مشروعاً سياسياً أو اقتصادياً فحسب، بل هو عودة الوعي إلى منبعه، وعودة التاريخ إلى أصله، وعودة الإنسان إلى صورته الأولى حين كان صانعاً لا مفعولًا به.
العراق لا ينهض من فراغ، بل من إرثٍ عمره سبعة آلاف عام، من ترابٍ يعرف طريقه إلى الشمس، ومن ذاكرةٍ لم تعرف النسيان يوماً .
وحين تشرق شمس النهوض من جديد على دجلة والفرات، سيعلم العالم أن الطين الذي بدأ منه الإنسان، ما زال قادراً على أن يُنبت المعجزة.
فالعراق — الذي منح الأرض معناها — لم يغِب، بل كان يستعدّ لعودته الكبرى.
العراق… من طين الحضارة إلى شمس النهوض،
حكاية الخلود حين تكتب نفسها من جديد،
وصوت الأزل حين يقول: أنا العراق… ولن أغيب.