آخر الأخبار
ألمقالات

الهوية كمعركة

كتب رياض الفرطوسي
ليست الحروب كلها عسكرية، ولا تبدأ دائماً بطلقة. أحياناً تنفجر في أعمق ما يملكه الإنسان: في تعريفه لذاته، في صورته عن وطنه، في المعنى الذي يربطه بالحياة. تلك هي الحرب التي تُخاض اليوم بصمتٍ تحت سطح الضجيج السياسي، حرب الهوية.

الهوية لم تعد سؤالًا ثقافياً أو انتماءً بسيطاً لجغرافيا، بل صارت حقلَ اشتباكٍ بين مشاريع متنافسة: مشروع يريد للإنسان أن يبقى حراً، مرتبطاً بكرامته وتاريخه، وآخر يسعى لتحويله إلى كائنٍ قابلٍ للبرمجة، يستهلك أكثر مما يفكر، ويطيع أكثر مما يحلم.

في العالم العربي، تتجسد هذه المعركة في صورةٍ واضحة: أممٌ تملك الأرض لكنها تفقد المعنى.
فحين تضعف فكرة الشرف، تتقدّم فكرة المنفعة. وحين يصبح الولاء وظيفة، لا عقيدة، تتحول الأوطان إلى مؤسساتٍ مؤقتة لا ذاكرة لها.
الهوية ليست جواز سفر، بل وعيٌ جماعيٌّ بأن للإنسان جذوراً لا تُقتلع، وأن الذاكرة ليست عبئًا بل دليل اتجاه.

لقد دخلت المنطقة منذ عقودٍ في دوامة تفريغٍ ممنهجٍ للمعنى. لم تُحتل الأرض بالسلاح فحسب، بل بالعادات الجديدة، بالصور، بالمفردات. صارت القوة تُقاس بما نستهلك لا بما نُنتج، وصار الانتماء يُقاس بالولاء للسلطة لا للقيمة.
إنها حربٌ ناعمة، لا تُراق فيها الدماء بقدر ما تُراق فيها الذاكرة.

في هذا السياق، لا يمكن فهم الصراع على فلسطين مثلًا بوصفه نزاعاً حدودياً أو سياسياً فقط؛ إنه اختبارٌ شاملٌ لمعنى الهوية. فكل موقف من هذه القضية يفضح تعريفنا لأنفسنا: هل نحن أمة ذات ذاكرة؟ أم مجرد سوقٍ مفتوح للمصالح؟
حين يُختزل الصراع في “تسوية” أو “تطبيع”، فإننا نعلن دون أن نشعر أن هويتنا صارت قابلة للتفاوض.

الهوية في جوهرها ليست شعاراً يرفع في المناسبات، بل قدرة على المقاومة — مقاومة النسيان أولًا، ثم مقاومة التشويه والتشكيك.
وحين تتراجع هذه القدرة، تتسلّل المشاريع الكبرى بهدوء: مشروع السيطرة الاقتصادية، مشروع التطبيع الثقافي، مشروع العولمة التي تبتلع الفوارق وتسوّي البشر على مقاسٍ واحدٍ من الاستهلاك والطاعة.

الذين يخططون للعالم من فوق، يعرفون أن السيطرة لا تحتاج دائماً إلى احتلالٍ مباشر. يكفي أن تُقنع الناس بأن الماضي عبء، وأن القيم القديمة لا تصلح للعصر. يكفي أن يُحوّلوا “الهوية” من مصدر قوةٍ إلى تهمةٍ بالانغلاق.
عندها فقط يصبح الإنسان غريباً في وطنه، ويغدو الوطن مجرّد مساحة جغرافية بلا روح.

لكنّ ما يغيب عن هؤلاء هو أن الهوية، مهما ضعفت، لا تموت. فهي كالنار تحت الرماد، يكفي أن تمسّها الريح لتشتعل من جديد.
وما نشهده اليوم في شوارع المدن العربية من تحولاتٍ في الوعي — مهما بدت فوضوية — هو في حقيقته عودة الذاكرة إلى المشهد. لم يعد الناس يصدّقون أن كرامتهم يمكن أن تُدار من الخارج، أو أن خلاصهم يمكن أن يُشترى بالرفاهية.

إنّ الهوية ليست نقيض التقدم، كما يحاول البعض أن يصوّرها، بل شرطه الأخلاقي. فالتطور بلا ذاكرة لا يصنع إنساناً، بل آلة. والمستقبل بلا جذور لا يبنيه الأحرار، بل الإداريون.
ولهذا، فإنّ معركة الأمة ليست فقط لتحرير أرضٍ، بل لتحرير معناها.

الهوية اليوم تُحاصر من كل الجهات: من الإعلام الذي يروّج للنموذج المستورد، من الاقتصاد الذي يقيس القيمة بالربح، ومن السياسة التي تختصر الوطن في الحاكم. ومع ذلك، يظلّ في هذه الأرض شيءٌ عصيّ على الترويض، شيءٌ يجعل اللغة تُقاوم النسيان، والأغنية تتذكّر الطريق، والإنسان — مهما ضعف — لا ينسى من هو.

إنّ أخطر ما يمكن أن يحدث لأمةٍ ليس أن تُهزم، بل أن تُقنع نفسها بأنّ الهزيمة “واقعية”. فحين يصبح الواقعي هو ما يفرضه الأقوى، تنتهي الهوية قبل أن تُطلق رصاصة واحدة.

لهذا، فالمعركة اليوم ليست على الأرض فقط، بل على الوعي.
الذين يدافعون عن هويتهم لا يطلبون عودة الماضي، بل يحمون إمكانية المستقبل. لأنّ الإنسان بلا هوية، لا مستقبل له إلا ما يُرسم له.

وفي النهاية، قد تتبدل الخرائط، وقد تتغيّر موازين القوى، لكنّ الأمم التي تعرف من هي، تعرف أيضًا كيف تعود.
فالهزيمة ليست سقوط الجسد، بل غياب المعنى.
وما دامت الهوية تقاوم، فإن المعركة — مهما طالت — لم تُحسم بعد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى