بوابة المستقبل


كتب رياض الفرطوسي
نحن نعيش اليوم على عتبة مرحلة غير مسبوقة في التاريخ الحديث. العالم يقف أمام مفترق طرق حقيقي، حيث تتقاطع نهاية دورة حضارية عمرها خمسة قرون مع بداية دورة جديدة تتشكل ملامحها ببطء، ولكن بثقة. إنّ ما نشهده ليس مجرد تبدّل في موازين القوى، بل تحوّل عميق في معنى الحضارة ذاتها، وفي موقع الإنسان داخلها.
فمنذ أن سقطت غرناطة وبدأت الرحلات البحرية الكبرى، تحوّل مركز العالم من الشرق إلى الغرب، ليبدأ عصر هيمنة أوروبا ثم الولايات المتحدة. تلك الهيمنة لم تكن صدفة، بل نتاج مشروع طويل ارتكز على العلم والصناعة والنهب معاً. لقد بنى الغرب حضارته على مبدأ التنوير والعقل، لكنه لم يتردد في استخدام القوة حين كانت مصالحه مهددة. ومن المفارقات أن القيم التي بشّر بها الغرب — كالحرية والمساواة وحقوق الإنسان — كانت تُطبق في الداخل وتُستثنى منها الشعوب الواقعة تحت الاستعمار.
اليوم، تبدو تلك الدورة الحضارية وقد بلغت نهايتها. الليبرالية التي شكّلت الإطار الأخلاقي والسياسي للغرب تعاني من الشيخوخة؛ أزمات اقتصادية واجتماعية، صراعات هوية، وانكشاف أخلاقي صارخ حين تتعارض المبادئ مع المصالح. الحرب في غزة لم تفضح فقط عجز المؤسسات الدولية، بل كشفت الوجه الحقيقي للنظام العالمي الذي يتحدث عن العدالة فيما يمارس الإبادة بصمت أو تواطؤ. الغرب لم يعد مركز الجاذبية، بل صار عبئاً على نفسه، يبحث في ذاكرته عن مبرر لقيادته للعالم.
في المقابل، تنبض المراكز الجديدة بطاقة مختلفة.
الصين مثلاً تمضي بثبات لتعيد إلى آسيا مكانتها التاريخية. إنها ليست دولة صاعدة فقط، بل حضارة تستعيد توازنها بعد قرون من الغياب. صعودها الاقتصادي والتكنولوجي يعيد تعريف معنى القوة في القرن الحادي والعشرين، لكنها تواجه أيضاً تحديات داخلية معقدة بين سلطة الحزب وانفتاح المجتمع، وبين طموح القيادة المركزية وتطلعات جيل جديد يرى العالم من شاشة هاتفه أكثر مما يراه من نافذة بيته.
أما روسيا، فهي تحاول أن تعود إلى المسرح الدولي بعد عقود من الانكماش. صراعها على أوكرانيا ليس جغرافياً فقط، بل رمزي أيضاً؛ محاولة لاستعادة مكانة في نظام عالمي يتشكل من جديد. وفي حين تتجه الأنظار شرقاً، تقف أوروبا في منتصف الطريق، مثقلة بشيخوخة ديموغرافية وفكرية، عاجزة عن إعادة تعريف نفسها بين واشنطن وبكين وموسكو.
العالم إذن يدخل مرحلة «اللايقين». النظم القديمة تتهاوى، والبدائل لم تكتمل بعد. لم يعد هناك مركز واحد للعالم، بل مراكز متعددة تتقاطع وتتنافس. وهذا التعدد ليس شراً بالضرورة، بل قد يكون فرصة لإعادة التوازن الذي غاب طويلاً. في هذه الفوضى الخلّاقة، كما وصفها البعض، تولد إمكانية بناء نظام أكثر عدلاً، إن وُجدت الإرادة والرؤية.
أما منطقتنا العربية، فهي تقف في قلب هذا التحوّل لكنها ما تزال تتعامل معه كمتفرج. منذ أن رُسمت حدودها الحديثة بعد الحربين العالميتين، عاشت المنطقة بين التبعية السياسية والانقسام الداخلي، فتبددت طاقاتها في صراعات صغيرة بدل أن توظفها في مشروع حضاري جامع. لقد آن الأوان لأن نكفّ عن التعامل مع التاريخ كقدر، وأن نبدأ في كتابته من جديد.
إنّ العالم يتجه نحو التكتلات الكبرى — من الاتحاد الأوروبي إلى مجموعة البريكس — بينما لا تزال منطقتنا أسيرة حواجز وهمية وجدران سياسية ونفسية. القوى الإقليمية، سواء كانت عربية أو إسلامية، تملك من الموارد البشرية والطبيعية والثقافية ما يجعلها لاعباً رئيسياً في النظام القادم، لكنها تحتاج قبل كل شيء إلى رؤية مشتركة تقوم على التكامل لا التنافس.
العراق، في هذا السياق، ليس مركز العالم ولا طرفاً هامشياً، بل جزء من معادلة أكبر. هو نموذج مصغّر للتحديات التي تواجه المنطقة كلها: تنوع عرقي وثقافي يمكن أن يكون مصدر غنى أو سبب انقسام، ثروات ضخمة يمكن أن تكون رافعة للتنمية أو لعنة إن لم تُدار بحكمة. مستقبل العراق مرهون بقدرته على بناء مؤسسات قوية، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وتحصين قراره السياسي من التجاذبات الخارجية. وعندما ينجح في ذلك، يصبح مثالًا على إمكان النهوض لا من بقايا الماضي، بل من طاقة الإنسان ذاته.
القضية الفلسطينية تبقى أيضاً حجر الزاوية في اختبار الضمير الإنساني. ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد مأساة إنسانية، بل مرآة تعكس انهيار منظومة القيم الدولية. صمت العالم أمام الإبادة ليس حياداً، بل إعلان إفلاس أخلاقي للنظام الذي ادّعى يوماً أنه حارس العدالة. ومع ذلك، فإنّ هذه المأساة قد تكون الشرارة التي توقظ وعياً جديداً في الشرق والعالم، وتعيد الاعتبار لفكرة المقاومة كحق إنساني قبل أن تكون شعاراً سياسياً.
السنوات القادمة ستكون زمن العبور، لا البقاء في الانتظار. عبور من المركزية الغربية إلى عالم متعدد الأقطاب، من الهيمنة إلى الشراكة، ومن الخضوع إلى الندية. هذا التحول لن يتحقق إلا بالعقل الجمعي، وباستثمار موارد الإنسان قبل الثروة، وببناء التعليم والمعرفة كقوة استراتيجية. المستقبل لا يُمنح، بل يُصنع، ومن يتقاعس عن صناعته سيجد نفسه خارج التاريخ.
إنّ بوابة المستقبل مفتوحة، لكن العبور منها يتطلب شجاعة فكرية قبل أن يتطلب قوة مادية. لا أحد يملك ترف الحياد بعد اليوم، فإما أن نكون فاعلين في صياغة العالم الجديد، أو نظل نعيش على هامش حضارات الآخرين.
في لحظة التحوّل الكبرى هذه، ما نحتاجه هو وعيٌ سياسيٌّ وجماعيٌّ يرى أن بناء المستقبل مسؤولية مشتركة، تبدأ من إصلاح الفكر قبل السياسة، ومن احترام الإنسان قبل الأرض.






