آخر الأخبار
ألمقالات

غرف الظل والأختام الناعمة

كتب رياض الفرطوسي
لم يعد المشهد العراقي حكراً على دهاليز الفساد المالي أو صفقات المقاولين أو تلاعب السياسيين بموارد الدولة، بل دخلت إليه قوة ناعمة أكثر خطورة، قوة تتخفى خلف وجوه أنثوية مصقولة بالفلر والإبر، وجلود مشدودة بعناية، لكنها تحمل بين طياتها قدرة على اختراق مكاتب المسؤولين وجرّهم إلى عالم أشبه بمصائد العسل: متعة ومال وأسرار. هكذا تشكّلت في العراق شبكات من الحسناوات، لم يقتصر دورهن على التجميل أو الإغراء، بل صرن أدوات للتجسس والتأثير والابتزاز، حتى باتت مؤسسات كاملة تُدار من خلف كواليسهن، وكأن القرار السياسي لم يعد يُصنع في البرلمان ولا في صناديق الاقتراع، بل في غرف الظل حيث تسود الأختام الناعمة.

انتقل العراق من زمن خيم الكاولية في عهد صدام، حيث كان الطرب والفشك والولائم لغة السلطة ووسيلة إشباعها، إلى زمن مختلف كلياً: زمن مكاتب الفاشنستات. هناك حيث يجلس المسؤول محاطاً بجيش من الوجوه الملمّعة، يتلقّى أوامر خفية وهو يظن أنه صاحب القرار. لكن الحقيقة أن الخيوط تمسك بها نساء يعرفن كيف يحوّلن الضعف الذكوري إلى طاعة، وكيف يقدمن أنفسهن كقنوات للنفوذ، يفتح لهن جسد واحد أبواب السياسة والمال والأسرار دفعة واحدة.

في هذه البيئة، لم يعد المسؤول سوى دمية تُحرّكها أيادٍ ناعمة. توقيع يمرّ لأن صاحبة الابتسامة أرادته أن يمرّ. ملف فساد يُدفن لأن الأختام الناعمة حكمت بذلك. انتخابات تتحوّل إلى مسرح عبثي، لا تعكس إرادة الناخبين بقدر ما تعكس إغراءات نساء يوزعن الولاء مثلما يوزعن الابتسامات . لقد تحولت بعضهن إلى كتائب حقيقية، جيوش ناعمة أخطر من أي مراكز بحث أو عقول مفكرة، لأن تأثيرهن لا يحتاج إلى حجج أو بيانات، بل إلى لمسة واحدة، نظرة واحدة، كفيلة بليّ عنق المسؤول.

المفارقة أن المجتمع العراقي، وهو الأكثر حساسية تجاه خطاب “الشرف”، يتغاضى عن أخطر أشكال الاغتصاب: اغتصاب المؤسسات والعدالة والقرار. يغضب من قصيدة أو قصة حب، لكنه يبارك – بصمت أو بخوف – لمؤسسة تُباع في غرف مظلمة مقابل متعة عابرة أو نفوذ عابر. بهذا المعنى، يتحوّل الشرف في العراق إلى شعار أجوف، بينما تنهش الأختام الناعمة بُنية الدوائر وتعيد تشكيلها وفق مقاس مصالحها.

هذه الظاهرة لا يمكن تبسيطها بوصفها مجرد فساد أخلاقي، فهي في جوهرها بنية سياسية موازية. من يتأمل مسار الدولة العراقية اليوم، سيدرك أن كثيراً من القرارات التي تحدد مصير الوزارات، وأحياناً مصير البلد بأسره، تصنعها هذه الشبكات التي تعمل كأذرع ظل: أذرع تعرف أن متعة قصيرة قد تساوي صفقة نفطية، وأن جسداً واحداً قد يُطيح بخصم سياسي أو يرفع مسؤولاً فاشلاً إلى أعلى المناصب.

إنها إذن ليست قصة نساء ولا قصة رجال، بل قصة مؤسسات مسروقة ومغتصبة، قرار محكوم بغرف لا يراها الشعب. الأسئلة التي يجب أن تُطرح اليوم: من يحكمنا فعلاً؟ هل هم أولئك الذين يعتلون المنصات، أم الشبكات الناعمة التي تتحكم بمكاتبهم؟ كيف يمكن لدولة أن تنهض إذا كانت مؤسساتها خاضعة لمعادلة جسدية خفية؟ وهل من الممكن استعادة السيادة من أيدٍ ملساء تتسلل إلى العقول والقرارات من دون أن تُرى؟

إن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب أولاً الاعتراف بها، وكسر الصمت حولها. فسرقة المال العام جريمة، لكن سرقة القرار عبر غرف الظل والأختام الناعمة جريمة أشد فتكاً، لأنها تقتل المؤسسات من الداخل وتحول الوطن كله إلى رهينة. وإذا لم يُكسر هذا التواطؤ المقيت، فسيبقى العراق أسيراً بين دمى رجال فقدوا إرادتهم، وجيش من نساء عرفن أن طريق السطوة والمال والمسؤولية أقصر بكثير من طريق الناخبين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى