آخر الأخبار
ألمقالات

الأمة المستباحة

 

كتب رياض الفرطوسي

تتدلى هذه الأيام لافتات انتخابية مزخرفة، تملأ شوارع العاصمة كأنها ألوان عرسٍ بلا فرح. تتكرر العبارات نفسها: “نحن باقون”، “أمة متينة”، “عهد الأمة”. كلمات أكبر من أصحابها، تُرفع على ألواحٍ لامعة بينما الواقع يفضحها. كيف يُصدَّق بقاء أمة وقوتها، وأركانها تتهاوى بسلوكيات زعماء جُرِّبوا حتى بليت صورهم على مقاعد السلطة، ولم يخلّفوا سوى الفساد والجشع والنهب والسطوة؟ كيف يعود الأمل بمن خان العهد مراراً، وكيف يُترجم الوعد إلى صدق وقد صار مراراً حبراً على لافتة أو وهماً في صندوق اقتراع؟

المأساة ليست في الكذب الانتخابي فحسب، بل في تفريغ فكرة المواطنة من معناها، حين تُختزل إلى بطاقة تعريف لا إلى عقد حقوق. المواطن في هذا الفهم البائس ليس شريكاً في الدولة، بل مجرد تابع، يُقاس فضله بكونه “ليس أجنبياً”، لا بكونه فاعلاً في وطنه. وهنا يولد الوهم الأكبر: أن الأمة امتياز لفئة، لا عقداً اجتماعياً متساوياً، وأنها وسيلة للتمييز، لا أفقاً للحرية.

أما المواطنة الحقيقية، كما يقرر الفكر الديمقراطي، فليست منّة من سلطة ولا هبة من حاكم، بل علاقة ثابتة بين الفرد والدولة، وبين المواطن وأخيه المواطن. أساسها سيادة القانون، والمساواة أمامه، وضمان الحقوق مهما تغيّر الحاكم أو تبدلت الأمزجة السياسية. عندها فقط تُبنى الأمة الحديثة: حين يخضع الحاكم للقانون مثلما يخضع له المواطن، وحين يجد الفرد أمامه قضاءً مستقلاً ينتصف له، لا ديوان مظالم يتسوّل فيه مكرمة.

لكن واقعنا أن النصوص الدستورية نفسها صارت جداراً أجوف، تُكتب فيه الحقوق بالحبر لتُمحى بالمزاج. اختُزلت الأمة إلى ظل بلا جسد، إلى شعار بلا مضمون، إلى رعية بلا مواطنة. وفي كل موسم انتخابي، يُعاد إنتاج الخديعة: تُرفع الأمة على المنصات وتُسلب في الواقع. يُباع الشعب أوهاماً رنانة فيما هو في الحقيقة بلا مساواة ولا ضمانات ولا حماية.

حتى المرجعية الدينية، التي أُريد لها أن تكون شاهدة صدق، قالتها بوضوح: إن هذه الوجوه قد استُهلكت، وإن هذه الأحزاب لم تُنتج سوى خرابٍ متراكم. أفلا يخجل من أثقل البلاد بالفساد أن يعود بوجه آخر إلى المنصة نفسها ليبيع الوعد ذاته وكأن الزمن متوقف والعقول غافلة؟

لكن الطريق ليس في اليأس ولا في ترك صناديق الاقتراع فارغة. فالصوت الانتخابي أمانة، لا يُفرّط به. المقاطعة لن تُسقط الفاسدين، بل قد تفتح لهم الباب واسعاً ليستمروا بلا رقيب. أما المشاركة الواعية، فهي التي تتيح للناخب أن يضع صوته في مكانه الصحيح، في يد النزيه والكفوء، لا في جيب المتلاعب. الأمة لن تستعيد روحها إلا حين يُدرك المواطن أن صوته ليس غنيمة لحزب، بل عهدٌ لوطن.

فلنذهب إلى الانتخابات، لا لنمنح الشرعية لمن خذلنا، بل لنمنحها لمن يستحق، لأولئك القلة الذين ما زالوا يؤمنون أن خدمة الناس شرف، وأن الوطن أمانة. عندها فقط تصبح الأمة قوةً لا شعاراً، حقيقةً لا قناعاً، وعهداً متجدداً لا خديعة موسمية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى