آخر الأخبار
ألمقالات

مصانع الضجيج

 

كتب رياض الفرطوسي

في قلب المشهد السياسي العراقي، لم تعد الأحزاب سوى مصانع تُعيد إنتاج الأصوات لا العقول، ضجيج يملأ الساحة العامة دون أثر في الوعي أو إسهام في الفكر. إنها لا تربي كوادر، بل تُدرّب ببغاوات تحفظ الشعارات وتُعيد اجترارها، كأن الغاية القصوى من العمل السياسي أن يتحول الإنسان إلى بوق يردد ما يُملى عليه.

هذه الأحزاب التي تتزيّن بالعناوين العقائدية الكبيرة لم تنشئ عقولاً حرة ولا ثقافة سياسية متراكمة، بل خلقت قطعاناً من الوحوش الضارية التي تفتك بالاختلاف كما تفتك بالحرية. وحين يطلّ صوت عقلاني أو رأي مغاير، يُستقبل كأنه مرض أو عيب نفسي، لا كحق مشروع ولا كإضافة تغني التجربة العامة.

أين هي المدرسة السياسية العراقية التي كان يُفترض أن تنمو مع تقلبات التاريخ؟ أين تراث الخبرة وتراكم التجارب؟ لا نجد إلا الاستعراض الفارغ، وهوس الهوبزة، ومجاميع من الأميين وأنصاف المتعلمين الذين وجدوا في السياسة وسيلة لتعويض عقد النقص، فغدت الساحة غابةً من المتباهين بالواجهة لا من الحاملين لمشروع.

المأساة أن العقل السياسي هنا لم يُعتقل فقط بالسلطة أو الأيديولوجيا، بل أُلغِي من أساسه. بدلاً من العقل الراصد الناقد، زرعت الأحزاب نظاماً من الأقنعة: وجوه تتظاهر بالصلابة، لكن بواطنها مليئة بالهشاشة والفراغ. كل شعارات الحرية والعدالة والمساواة ليست سوى أقنعة تُستنزف الطاقة اليومية لحملة الخطاب أنفسهم، وهم يعيشون انقساماً داخلياً بين ما يعلنون وبين ما يفكرون حقاً.

إنها مأساة “الضمير المعاق”، ليس بالمعنى البيولوجي فحسب كما كشفت العلوم، بل بالمعنى السياسي والاجتماعي. ضمير مشوّه لا يعرف التعاطف مع الناس ولا يملك شجاعة مواجهة الحقيقة، بل يقف ثابتاً كالأصنام في قلب الحريق، لا يهتز أمام الجثث ولا يتأثر بالكوارث.

هكذا تحوّلت السياسة العراقية، قبيل الانتخابات من جديد، إلى مسرح للتمويه، يتصارع فيه ممثلون من دون نص، يرفعون عقائرهم بالشعارات لكنهم لا يملكون فكراً ولا خيالاً ولا قدرة على الابتكار. في زمن يحتاج فيه العراق إلى عقول ناقدة، خلاقة، تُحيل كل موقف إلى العقل والضمير، لا إلى الحشود الغوغائية ولا إلى الببغاوات الحزبية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى