آخر الأخبار
مصر الخير: قدمنا 13.6 مليون خدمة صحية ونعمل ٣ محاور لخدمة المستحقين  بحضور ممثلي التضامن والصحة مصر الخير تحتفل بمرور 8 سنوات علي إنشاء مركز للغسيل الكلوي بمركز كوم حما... جرح الأب العاطفي وعلاقته بتقدير الذات خاص | وكالة الراصد نيوز24 إصدار جديد للروائي والناقد العراقي إبراهيم رسول بعنوان (ندوبٌ على خدِّ الع... عبر الرقم المجاني 154.. النزاهـة: نستقبل الشكاوى والبلاغات عن شبهات الفـساد في بغداد والمحافظات من ا... رئيس هيأة الإعلام والاتصالات يناقش مع القائم بأعمال السفارة البريطانية آليات التعاون في ضبط المحتوى ... إنتاج كهرباء الفرات الأوسط" تطلق حملة توعوية حول الدفع الإلكتروني لفواتير الكهرباء دائرة صحة الأنبار تفتتح مركز صحي الطاش الرئيسي بعد إعادة تأهيله وتجهيزه بأحدث الأجهزة الطبية مواصلة التفتيش والحماية للمنشآت النفطية في محافظة البصرة اختتام ناجح لبطولة أندية العراق الكبرى بالكيك بوكسينغ..  وغاز الجنوب ومصافي الجنوب يخطفون المركز الأ...
ألثقافة والفن

عشتار.. تكتبُ مسلَّةَ القمر

عشتار في ضباب القلق: قراءة وتأويل لقصيدة (عشتار.. تكتبُ مسلَّةَ القمر) للشاعر حسين السياب | رياض عبد الواحد
ناقد | عراقي

 

المقدمة:
تتميز قصيدة (عشتار.. تكتب مسلة القمر) بتداخلها الفريد بين التراثي والحداثي، إذ يدمج الشاعر الأسطورة والرمز بالذات القلقة الباحثة عن الحقيقة، في توليفة شعرية تتسم بالكثافة الدلالية والصور العميقة. يستحضر الشاعر رموزًا ذات جذور تاريخية، مثل عشتار، ليؤسس رؤية حداثية ترتكز على الانتماء والتحول والبحث عن المعنى في عالم مضطرب. تتداخل الأصوات الزمنية في القصيدة، إذ يتماهى الماضي بالحاضر، والتراث بالمعاصرة، لينتج نصًّا يتجاوز البعد الزمني في بنائه ودلالاته.

البنية الدلالية للنص.. استحضار الأسطورة والرمزية العميقة:
يستند الشاعر إلى عشتار، الإلهة البابلية الشهيرة، رمز الحب والخصوبة والحرب، والتي تمثل القوة المتناقضة للوجود. من خلال جعلها محورًا للقصيدة، يمنحها دورًا يتجاوز مدلولها التقليدي، فتغدو رمزًا للخلاص والثورة والتحوّل.

يقول الشاعر:
“فلا ربّةَ للقمرِ سوى عشتار..”
هنا، يتمركز القمر كرمز للغموض والحكمة، لكنه لا يجد من يمنحه المعنى سوى عشتار، وكأن الشاعر يعيد تعريف المرجعيات الكونية، ويضع عشتار في مقام المعبودة الوحيدة التي تنير الظلام. هذا يؤكد رؤية الشاعر بأن الأسطورة ليست مجرد ماضٍ مندثر، بل قوة حية فاعلة في الواقع.

جدلية الضباب والتحول الوجودي:
يبدأ الشاعر النص بنداء إلى الضباب، الذي يتجاوز كونه ظاهرة طبيعية ليصبح رمزًا للضياع والبحث عن اليقين:
“خذني إليكَ أيُّها الضبابُ البعيدُ
بيدَينِ من ماءٍ ودخان
ضُمَّني لنتلاشى معاً..”
هنا، نجد الذات الشعرية في حالة رغبة في الذوبان، مما يعكس قلقًا وجوديًا عميقًا. فالماء والدخان يرمزان إلى السيولة والتبخر، أي إلى فقدان الشكل الثابت، وهو ما ينسجم مع طبيعة الشاعر الباحث عن تحوّلٍ يحرره من قيود الواقع.
علاقة الذات بالمرايا والهوية المشروخة
“ترنو إليّ المرايا بشوقِ الغريبِ للنهرِ..
هكذا غدوتُ…”
المرايا هنا ليست مجرد سطح يعكس الصورة، بل هي رمز للبحث عن الهوية المفقودة. الشوق للنهر يُحيل إلى حالة التيه، وكأن الذات تعيش غربة داخلية، فكما يشتاق الغريب للنهر، تشتاق الذات للحقيقة التي لا تجدها إلا في المرايا المنكسرة.
البناء الشعري والصور الفنية
التناصّ مع التراث السومري
تستدعي القصيدة صورًا وأفكارًا ذات أصول سومرية، فالعجائز الحائرات على عتبات القهر يذكّرن بالطقوس الجنائزية في الحضارات القديمة، إذ كانت النساء تنوحنَ على المصائر المحتومة.
“من طقوسِ العجائزِ الحائراتِ على عتباتِ القهرِ ولدتُ”
هذا التوظيف يعكس كيف أن المعاناة ليست فردية بل ممتدة عبر التاريخ، وكأن الشاعر يتقمص الإرث الجمعي للوجع الإنساني.

الحركية في الصور الشعرية:
تتميّز القصيدة بديناميكية واضحة، إذ نجد الفعل والانتقال المستمر بين الصور:
“تسافرُ بيَ الأفكارُ
ومن وجوهِ المارّةِ أسلبُ الطّينَ
كرائحةِ الطريقِ المتعَبِ”
هنا، تتحول الأفكار إلى كائنات متحركة تسافر، والذات لا تكتفي بالملاحظة بل تسرق الطين من الوجوه، في صورة توحي بالبحث عن الجذور والانتماء. الطين هو أصل الخلق، وسلبه من الوجوه يرمز إلى تفكيك الهوية والبحث عن جوهرها الحقيقي.
إيقاع القصيدة وأثره في بناء المعنى.
يستعمل السياب تكرار بعض المفردات والتراكيب لتعزيز الإيقاع الدرامي، مثل:
“عشتار..
تلكَ رياحيَ الجامحةُ ما زالت منذُ الفجرِ تكسّرُ الزيفَ
وتطفئُ ظلامَ النار..”
التكرار هنا ليس مجرد إعادة، بل تأكيد على مركزية عشتار كقوة تغييرية. كما أن تضاد “تكسرُ الزيف” و”تطفئُ ظلامَ النار” يعكس طبيعة الصراع الذي يعيشه الشاعر، إذ يحارب الخداع وينشد النور الحقيقي.

البعد الفلسفي والوجودي في القصيدة
أبناء الجن.. الهويات العابرة للحدود:
“نحن أبناءُ الجنّ
العابرونَ حدودَ الوطن
المارُّونَ بقواربِ الليلِ”
هنا يخرج الشاعر عن التصنيفات التقليدية للهوية، ويؤكد أنه ليس مجرد كائن بشري مقيد بالجغرافيا، بل هو ابن للتحول، للغموض، للعوالم غير المرئية. الجنّ هنا يرمزون للتمرد، للوجود الحرّ، للكينونة التي لا تخضع للمألوف.
القمر كرمز للمقدّس الأرضي
“فلا ربّةَ للقمرِ سوى عشتار..”
في هذا البيت يتجلى البعد الصوفي للنص، فالقمر في الميثولوجيا هو رمز الروح، والإلهة عشتار تتجاوزه لتصبح هي المعنى الكامن خلفه. كأن الشاعر يعيد تعريف المقدس عبر منظور شعري، فتصبح الأنثى هي الجوهر، والقمر هو المظهر.

الخاتمة:
تمثل قصيدة (عشتار.. تكتب مسلة القمر) عملًا شعريًا عميقًا يدمج بين التراث والحاضر، بين الذات والأسطورة، بين القلق واليقين. يعتمد الشاعر حسين السياب على لغة شعرية زاخرة بالرموز والصور التي تتجاوز المباشرة، ليقدم رؤية شعرية تفتح المجال أمام تأويلات متعددة. بواسطة استحضار عشتار، يستدعي الشاعر ليس فقط الماضي السومري، بل يطرح تساؤلات وجودية حول الهوية، الزمن، والانتماء. القصيدة تتجاوز كونها مجرد استعادة للتراث، لتصبح لحظة شعرية يتجلى فيها الحاضر ممزوجًا بنداء الأزمنة السحيقة.

(عشتار.. تكتبُ مسلَّةَ القمر)

خذني إليكَ أيُّها الضبابُ البعيدُ
بيدَينِ من ماءٍ ودخان
ضُمَّني لنتلاشى معاً..
أذوبُ بكَ
وتحترقُ مطراً أسودَ داخلَ جسدي
ترنو إليّ المرايا بشوقِ الغريبِ للنهرِ..
هكذا غدوتُ…
من طقوسِ العجائزِ الحائراتِ على عتباتِ القهرِ ولدتُ
لأُدوّنَ مزاميرَ منسيّةً
وأعقدَ صفقةً مع الريح…
تسافرُ بيَ الأفكارُ
ومن وجوهِ المارّةِ أسلبُ الطّينَ
كرائحةِ الطريقِ المتعَبِ
ترنو المرايا لقصائدي المغلّفةِ بنبوءةِ العودة…
من قلاعِ الحبّ
أستبشرُ بالقناديل
فلا ربّةَ له سوى عشتار..
عشتار
تلكَ رياحيَ الجامحةُ ما زالت منذُ الفجرِ تكسّرُ الزيفَ
وتطفئُ ظلامَ النار..
أيُّها الضبابُ
نحن أبناءُ الجنّ
العابرونَ حدودَ الوطن
المارُّونَ بقواربِ الليلِ
خذني إليك
فلا ربّةَ للقمرِ سوى عشتار

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى