آخر الأخبار
ألمقالات

وهم القوة

 

كتب رياض الفرطوسي

لم يكن ما جرى في صيف 2025 مجرد قصف أو طائرات تحوم في سماء الشرق الأوسط. كان امتحاناً هائلًا لقوة العنف حين تصطدم بجدران الجغرافيا والذاكرة والقدرة على الاحتمال. فقد أطلق الأمريكيون والإسرائيليون جحيمهم دفعة واحدة على إيران، يحلمون بخنق طموحها النووي، ويطمحون إلى زلزلة أركان نظامها الصلب. لكن الشرق الأوسط، كعادته، كان أوسع من خطط القادة وأشد مراوغة من صواريخهم الذكية.

انهالت موجات القنابل والصواريخ على المواقع النووية الإيرانية. في لحظات، أضاءت النيران سماء نطنز وأصفهان وفوردو، وبدت الأرض هناك وكأنها تلفظ نارها في وجه من يهاجمها. وحين هدأ الغبار، اكتشف المهاجمون أن نيرانهم لم تحرق سوى قشور المشهد. ظلت أعماق البرنامج النووي عصية على الفناء، وخرجت إيران من تحت الأنقاض تلوّح بإرادة لم تنكسر، وصواريخ لم تُستنفد.

ليس سراً أن إيران استبقت الضربة بنقل ما يلزم من معدات ومواد، وحين تلقّت اللكمة الأولى، ردّت بأكثر من قبضة. تدفقت صواريخها نحو قلب الكيان الإسرائيلي، تقصف المدن والسماء والتاريخ معاً، فتتحوّل تل أبيب وحيفا والمناطق الجنوبية حتى تخوم النقب إلى مسارح للهلع والنيران. وبدا كأن الشرق الأوسط يكتب مجدداً على حائط الزمن أن من يظن أنه يحتكر القوة يكتشف سريعاً أن الضحية قادرة على أن تصير وحشاً حين تُدفع إلى الزاوية

وفي خضم هذا التصعيد، بدا الرئيس دونالد ترامب أكثر اهتماماً بإيصال رسائل القوة من خلال تصريحاته ومنشوراته، منه بالنتائج الواقعية على الأرض. استخدم خطاباً عالي النبرة، وتحدث عن نصر وشيك، في وقت كانت تقارير أجهزته الاستخباراتية تشير إلى محدودية أثر الضربة. وبينما اشتعلت المنطقة بنيران المواجهة، بدا أن الرئيس الأمريكي يراهن على صورة النصر أكثر من رهانه على استراتيجيات تُنهي الصراع فعلياً، وهو ما جعل الكثيرين يرون في هذا النهج انعكاساً لمأزق سياسي أكثر منه إنجازاً عسكرياً.

أما إسرائيل، التي خُيّل لها أن ضربة استباقية ستضمن أمانها لعقود، فقد اكتشفت أن فكرة الأمن المطلق مجرّد وهم. فقد فاجأتها صواريخ لم تعتدها من قبل، صواريخ تتسلل من تحت راداراتها وتُسكت صفارات إنذارها. ومن جنوب فلسطين إلى عمق المدن، تهاوت الهالة التي ظلّ نتنياهو يتغنّى بها أمام شعبه، ليتقلص في النهاية إلى رجل يطلّ عبر مقاطع فيديو مرتبكة، يبحث عن أي جملة مقنعة في قاموسه.

لكن أبعد من حسابات السلاح والصواريخ، كان المشهد يرسم تحولاً أعمق. فقد ثبت أن عصر الضربة القاضية قد ولى، وأن الحروب الحديثة لم تعد تُحسم بطائرات الشبح ولا بـ«أم القنابل» الضخمة، بل بقوة الأنظمة على امتصاص الضربات، وقدرتها على المناورة، وامتلاكها إرادة الصمود. ولهذا، بدت إيران رغم خسائرها كمن خرج من المعركة أصلب عوداً وأكثر شراسة.

وها هي الحرب التي ظنّها البعض فاصلة، تتحول إلى فصل إضافي من تاريخ طويل من الصراعات المؤجلة. لا أمريكا دمّرت البرنامج النووي الإيراني، ولا إسرائيل ضمنت أمنها إلى الأبد. بل ربما أسهمت تلك الضربات العنيفة في دفع طهران إلى المضي أبعد مما كانت تخطط له، وقد تراها في الغد ترفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى مستويات لا تُخطئ معناها العيون.

ليس جديداً على الشرق الأوسط أن يخرج من بين ركام الحروب بمعادلات جديدة. لكن الجديد هذه المرة، أن مشهد 2025 أضاف حقيقة صادمة إلى دفتر المنطقة: مهما بدا الطرف المهاجم ضخماً ومدججاً بالنار والحديد، تبقى إرادة الأرض التي يُحارَب فوقها أقوى من أكثر الأسلحة دماراً. وربما لهذا، ما زال الشرق الأوسط يُدهش الجميع، ويُجبرهم على إعادة حساباتهم في كل مرة يظنون فيها أنهم أغلقوا ملفاته إلى الأبد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى