قرار التوقف: تحليل وقف الحرب الأمريكية على إيران بين الإرهاق الشعبي والرهانات الخاسرة


حيدر البرهان الحمداني
كاتب وباحث | عراقي
المقدمة: صدمة التصعيد والتراجع
في 24 يونيو 2025، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقفاً مفاجئاً للحرب على إيران بعد أيام فقط من تدخل الولايات المتحدة المباشر بقصف المنشآت النووية الإيرانية. هذا القرار لم يكن اعتباطياً، بل جاء نتيجة ضغوط متشابكة: معارضة شعبية ساحقة، وإرث كارثي من الحروب السابقة، وتكاليف مادية فادحة، وتحديات استراتيجية أمام القواعد الأمريكية في الخليج، إضافة إلى رفض دولي وإخفاق في الحرب الإعلامية. هذه العوامل حوّلت “المغامرة العسكرية” إلى عبء سياسي لا يحتمل.
1–الإرث الكارثي: شبح العراق وأفغانستان يطارد القرار الأمريكي
-رفض شعبي جارف: وفق استطلاعات غير مباشرة وردت في التحليلات، فإن أكثر من 65% من الأمريكيين عارضوا دخول حرب جديدة، خاصة بين فئة الشباب والمحاربين القدامى الذين عانوا من “متلازمة حروب الشرق الأوسط”. حركة “أمريكا أولاً” التي يمثلها نائب الرئيس جي. دي. فانس، هددت بالتمرد على ترامب لو تحولت الضربات إلى حرب شاملة.
-التكلفة المادية الفادحة: تكشف وثائق البنتاغون أن تكلفة الأسبوع الواحد من العمليات العسكرية (بما في ذلك إطلاق صواريخ “توماهوك” وتشغيل قاذفات B-2) تجاوزت 15 مليار دولار. رقمٌ يذكر الرأي العام الأمريكي بـ “حرب العراق” التي كلفتهم 2 تريليون دولار على مدى عقدين.
2–القواعد الأمريكية في الخليج: أهداف سهلة للصواريخ الإيرانية
-هشاشة الموقع الاستراتيجي: هجوم إيران على قاعدة العديد في قطر في 23 يونيو 2025 (الذي أسفر عن إطلاق 19 صاروخاً) كشف ضعف القواعد الأمريكية، رغم الدفاعات الجوية. القرب الجغرافي من إيران (200 كم فقط عن السواحل الإيرانية) يجعلها عرضة لتدمير فوري في أي مواجهة .
-تهديد مصالح حلفاء الخليج: دول مثل قطر والإمارات أظهرت غضباً علنياً بعد الهجمات، واعتبرتها انتهاكاً لسيادتها. هذا يهدد التحالفات الأمريكية الإستراتيجية في منطقة تعتمد عليها واشنطن لأمن الطاقة العالمي.
3–الرفض الدولي: ترامب في مواجهة العالم
-انتهاك القانون الدولي: أدان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الضربات الأمريكية ووصفها بـ “الانزلاق نحو دوامة الفوضى”. حتى الحلفاء التقليديون مثل فرنسا (عبر ماكرون) طالبوا بضبط النفس .
-روسيا والصين: إدانة مزدوجة: وجهت الخارجية الروسية تحذيراً صريحاً من “الأعمال الاستفزازية الأمريكية”، بينما وصفت صحيفة تشاينا ديلي الهجمات بأنها “انتهاك صارخ للسيادة” .
-غياب شرعية الكونغرس: تصرف ترامب دون موافقة الكونغرس، مستنداً إلى “صلاحياته كقائد أعلى للقوات المسلحة”. هذا أثار غضباً حتى داخل صفوف الجمهوريين، الذين وصفوا الخطوة بأنها “تجاوز دستوري خطير”.
4–الهزيمة الإعلامية: السوشيال ميديا تكشف التناقضات
-فضيحة “الرد الضعيف”: سخرية واسعة طالت ترامب بعد تغريدته “أشكر إيران على إخطارنا المبكر قبل الهجوم على قطر”، والتي فُسرت كاعتراف غير مباشر بفشل الردع الأمريكي. الهاشتاغ #ترامب_يخسر تصدر تويتر في 24 يونيو.
-مقارنات بغزة: الصحف الغربية (مثل الغارديان) ربطت بين “فظائع غزة” و”عدوان إيران”، مشيرة إلى أن إسرائيل فقدت تعاطف الرأي العام العالمي، وبالتالي جرت واشنطن إلى فوضى إعلامية.
-سردية النصر المزيف: خطاب نتنياهو “المنتشي” بالإنجليزية (وليس العبرية) بعد الضربات الأمريكية، ووصفه إياها بـ “النصر التاريخي”، تعرض لموجة سخرية عندما أعلنت إيران أن منشأة فوردو لم تُدمر سوى جزئياً.
5–حسابات ترامب: بين الخسائر السياسية والفرص الضائعة
-تجنب كارثة انتخابية: مع اقتراب الانتخابات النصفية للكونغرس في 2026، لم يستطع ترامب تحمل تورط أمريكا في حرب قد تودي بحياة آلاف الجنود. قاعدة أنصاره تتبنى شعار “لا لمزيد من الحروب” .
-فشل الردع العسكري: الضربات الأمريكية لم تحقق هدفها الأساسي (تدمير البرنامج النووي الإيراني)، بل عززت قدرات إيران الردعية، كما ظهر في اختراق صواريخها “للقبة الحديدية” الإسرائيلية .
-مأزق نتنياهو: وافقت إسرائيل على وقف إطلاق النار “تحت ضغط ترامب” بعد أن فشلت في تحقيق أهداف الحرب، ما كشف انفصاماً في التحالف الأمريكي-الإسرائيلي.
الخاتمة: وقف إطلاق النار… هل هو نصر لإيران؟
قرار ترامب بوقف الحرب لم يكن انتصاراً لإيران بقدر ما كان اعترافاً أمريكياً بالمأزق الاستراتيجي:
-الشعب الأمريكي رفض تمويل مغامرة عسكرية جديدة.
-الحلفاء الدوليون حاصروا واشنطن بسياج من الإدانات.
-التكاليف المادية والبشرية فاقت أي مكاسب محتملة.
-القواعد العسكرية في الخليج تحولت من أصول إلى عبء.
اليوم، تظهر إيران نفسها كقوة ردعت أمريكا عبر “استراتيجية الصواريخ” و”الحرب النفسية”، لكن المنطقة دخلت مرحلة جديدة من عدم الاستقرار، حيث قد يكون وقف إطلاق النار مجرد هدنة مؤقتة قبل جولة تصعيد أخرى. السؤال الأكبر: هل تعلمت واشنطن درساً من تاريخها في العراق وأفغانستان؟ الوقائع تشير إلى أن الإرهاق الشعبي قد يكون القوة الأكثر تأثيراً في صنع القرار الأمريكي.





