الوعي يصوّت للتنمية


كتب رياض الفرطوسي
في العراق، لا تنبت التنمية من فراغ، ولا تنهض الأمم على أكتاف التمني وحده، بل على وعي يفتح عينيه جيداً ويقرأ المشهد كما هو، لا كما يُراد له أن يكون. فالوعي، حين يُستنفر في لحظة سياسية فارقة، يتحول من فكرة تجريدية إلى سلوك جماعي، ومن ثقافة نخبوية إلى قرار شعبي. في هذه اللحظة بالذات، لا يبدو الصوت الانتخابي مجرّد ورقة تُلقى في صندوق، بل فعلًا سيادياً، يعلن من خلاله المواطن مسؤوليته عن مصير وطنه، ويكتب سطراً جديداً في دفتر مستقبل طال انتظاره.
الوعي هنا ليس زينة فكرية، ولا ترفاً ثقافياً يصلح للتنظير فقط. هو العمود الفقري لأي نهضة، والجدار الأخير الذي تستند إليه الدولة حين تهتز الأرض تحت أقدامها. أن تكون مدركاً لما يحدث حولك، متيقظاً لِمن يُنفق الكلام ولا يصنع الأفعال، هو أن تتحرر من الدور المرسوم لك كمجرد متلقٍ، وتتحول إلى فاعل حقيقي في صناعة القرار. ذلك أن التاريخ لا يُكتب بالحياد، وإنما تُعيد كتابته الشعوب حين تقرر أن تعي، أن ترفض أن تكون مادة خامًا لصراعات الآخرين، وأن تؤمن بأن التغيير لا يأتي بالصدفة بل بالاختيار.
لقد علّمتنا السنوات العجاف أن غياب الوعي السياسي هو أول بوابة للفوضى، وأخطر نافذة للفساد. وحين يتحول التصويت إلى طقس آلي أو إلى استجابة لغواية طائفية أو عاطفية أو مصلحية ضيقة، يصبح الوطن كله مهدداً. لم تعد الانتخابات القادمة مجرد استحقاق دستوري عابر، بل اختبارٌ عميق للوعي الجمعي، ولقدرته على فرز الصدق من الزيف، والإخلاص من الشعارات. وحين يصوّت العراقي بضمير صاحٍ، فإنّه لا يختار مرشحاً فحسب، بل يختار مصير وطن. وإن أدار ظهره، أو استُدرِج من جديد إلى دوامة الخداع، فذلك صوت آخر للفشل، يُمدد عمر الخراب، ويمنح الفاسدين دورة حياة جديدة.
لكنّ الضوء لا يغيب تماماً، حتى وإن كثرت سحب التزييف. فمنذ تسلّم السيد محمد شياع السوداني زمام المسؤولية في هذا البلد ، بدأت بعض الملامح الواقعية لمشروع الدولة تظهر، وسط تعقيدات لا تخفى على أحد. وفي بلد اعتاد على الخطابات الرنانة دون أن يلمس تغييراً على الأرض، بدت خطوات الحكومة الحالية محاولة جادة لخرق جدار الانسداد. فقد نجحت، وسط زحام المصالح وتشابك الأزمات، في وضع الأساسات الأولى لمشروع تنموي جاد، لا يقوم على الخطابات، بل على الفعل: مشاريع للبنية التحتية انطلقت في أكثر من محافظة، فرص عمل بدأت تنبض في قطاعات حيوية، مصانع أُعيد تأهيلها بعد سبات طويل، وملفات شائكة فُتحت رغم صعوبتها، من مكافحة الفساد إلى إصلاح التعليم.
هذا التحول لا يمكن عزله عن الإرادة السياسية، لكنّه أيضاً ثمرة لمعادلة جديدة بين الدولة والمواطن. فالتنمية ليست قراراً حكومياً فحسب، بل هي عقد شراكة ناضجة، فيها يطالب الشعب بالخدمات ويمنح في المقابل ثقته لمن يستحق. ولذلك، فإن كل مشروع تعبيد طريق، وكل مدرسة تُبنى، وكل مركز صحي يُفتتح، ليس مجرد إنجاز خَدَمي، بل لبنة في بناء عقد اجتماعي جديد. ورغم أنّ العراق لا يزال في منتصف الطريق، إلا أنّ هذا الاتجاه نحو الدولة، بكل ما فيه من صعوبات وخصوم وتربص، يستحق أن يُقرأ بعين الإنصاف، لا بمنظار التحامل أو التسييس.
لكن كيف يمكن أن يُثمر هذا الاتجاه، إذا لم يُحاط بوعي جماعي يحميه؟ الوعي السياسي لا ينمو في بيئة ملوثة بالتحريض والضجيج، بل في فضاء من التعليم الجيد والإعلام المسؤول. وإذا أردنا فعلًا أن نربّي مواطناً يعرف كيف يختار، فعلينا أن نمنحه أدوات الفهم أولاً. المدرسة ليست مجرد مكان لحشو المعلومات، بل مختبر لإنتاج التفكير النقدي. يجب أن نخرج من عباءة التلقين، ونمنح أبناءنا مناهج تشجعهم على السؤال، لا على الانقياد. الإعلام بدوره يجب أن يتحرر من كسله، ويتحول من منصة للتسويق السياسي إلى منبر للمساءلة، يعلي صوت الحقيقة فوق صوت الدعاية، ويعيد للمواطن ثقته بأن المعلومة لا تُباع في سوق المصالح.
وللشباب والنساء الدور الذي لا يمكن تأجيله أو تجميله. إنهم ليسوا رقماً في جدول البيانات، ولا أصواتاً تُستثمر انتخابياً ثم تُهمّش بعد الصناديق، بل هم القلب الذي يضخ الحياة في مشروع الإصلاح. حكومة السوداني حاولت، وسط عواصف التشكيك والعرقلة، أن تفتح لهم نوافذ المشاركة، وأن تزرع الأمل فيهم من جديد، سواء عبر دعم المشاريع الصغيرة، أو فتح مجالات التدريب والتوظيف، أو إشراكهم في الحوارات الوطنية. وفي بلدٍ أنهكته سنوات من التهميش والخذلان، تبدو هذه الخطوة كأنها تشق طريقاً في صخر.
كما أن مسؤولية الأحزاب والقوى السياسية لا تقلّ أهمية. فالوعي لا يُزرع في فراغ، بل في بيئة تسمح له أن ينمو. على تلك القوى أن تكفّ عن استغلال حاجات الناس، وأن تتخلى عن خطاب التخويف والتجييش، وأن تبدأ بتقديم برامج حقيقية قابلة للمساءلة. فالعراق لا يحتاج إلى أبواق جديدة، بل إلى رجال دولة، يعرفون أن الشفافية ليست ضعفاً، وأن المحاسبة ليست تهديداً، بل ضمانة.
الطريق طويل، والخصوم كُثر، لكنّ الإرادة أقوى. العراق اليوم لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى شعب يعرف ما يريد. إلى ناخبٍ لا تُخدعه الألوان، بل يبحث عن الجوهر، ويُدرك أن صوتَه يمكن أن يكون رصاصة ضد الفساد، أو رصاصة في قدم الوطن، إن هو استُغفل من جديد. إنّنا بحاجة إلى وعيٍ لا يخاف المواجهة، يرفض المساومات، ويطالب بالحق لا بالترضيات. وعيٍ لا تستهويه الشعارات الجوفاء، بل يفتش عن الفعل الحقيقي، وعن من يحمل مشروعاً لا يخجل أن يُحاسب عليه.
قد تبدو هذه المطالب عالية السقف، في بلد تعوّد على خفض الطموح وتدجين الأحلام، لكنها ليست مستحيلة. فقد أثبت العراقيون، في أكثر من لحظة مفصلية، أنهم قادرون على قلب المعادلات حين يقررون أن يكونوا شركاء لا مجرد متفرجين. الانتخابات القادمة فرصة، لكنها لن تُثمر شيئاً إن لم يسبقها وعي يحرسها. ليست التنمية قراراً حكومياً فقط، بل عقد شراكة بين الدولة ومواطنيها. وما بدأته الحكومة الحالية من خطوات، ينبغي أن يُستكمل بموجة وعي تعمّ الشارع، وتُخرج السياسة من أسر الطوائف والولاءات الضيقة إلى فضاء الوطن الكبير.
هكذا فقط، يمكن لصوت المواطن أن يتحول إلى صوت للتنمية، وإلى بداية لعراق لا يعيد أخطاءه، بل يكتب تاريخه من جديد، بحبر الوعي لا دموع الندم، بعقل المواطن لا بوصايا الزعيم، وبشراكة لا وصاية، وبإرادة لا انتظار.