بعد الحفرة


كتب رياض الفرطوسي
ربما يظنّ القارئ، للوهلة الأولى، أن “الحفرة” المقصودة هنا هي تلك التي أُخرج منها صدام حسين، بشعره الكثيف وذقنه المنهارة ونظراته المترددة في التقاط الضوء، كمن خرج من سرداب الأساطير لا من حفرة واقعية. لكن لا، فهذه ليست سوى “الحفرة الصغيرة”؛ تلك التي التقطتها الكاميرا. أما “الحفرة الكبيرة”، الحفرة الأصل، فهي في مكان آخر: في داخلنا نحن.
نحن من نحفرها، كل يوم، ونجعل منها بيتاً للأجيال. حفرة لا تمتد تحت الأرض، بل تمتد فوقها وبيننا، حفرة من التواطؤ الصامت، من الخوف الموروث، من القمع غير المُعلن الذي يمارسه المجتمع لا الدولة، الأسرة لا الشرطة، المدرسة لا الحزب. حفرة تُبنى بالحذر الزائد من “الخروج عن السطر”، وبالتلويح الدائم بعقوبة “ما يقوله الناس”.
لقد قال فرويد يوماً إن الحضارة تكبح الغرائز من أجل التنظيم. لكنه لو رأى مجتمعاتنا، لقال إن التنظيم عندنا لا يتم بقوانين الدولة بل بتقاليد الشارع، لا بالقانون المكتوب بل بالوصايا الشفهية. القمع ليس من أعلى، بل من كل اتجاه، كأنه طوق، أو شبكة، أو جدار متحرك. المجتمع هو السجّان الأكبر، يربي أبناءه ليخافوا بعضهم بعضاً، ليُكملوا ما بدأته السلطة ثم تقاعدت عنه. دولة القمع قد تسقط، لكن مجتمع القمع نادراً ما يتقاعد.
إريك فروم كان يقول إن الإنسان يهرب من الحرية لأنه لا يحتمل مسؤوليتها. في مجتمعاتنا، الحرية ليست فقط ما نخشاه، بل ما نعتبره خطراً. من يرفع رأسه قليلًا فوق مستوى الحفرة، يُتهم فوراً بالغرور، بالكفر الاجتماعي، بعدم احترام “الظروف”. والمجتمع، بذكائه التاريخي، لا يُعاقب الخارجين عليه بالسجن، بل بالتشكيك، بالتهميش، بالغمز، حتى يعودوا إلى الصفّ من تلقاء أنفسهم.
نيتشه، بدوره، كان سيشعر بالأسى، لا السخرية، لو رأى كيف أن “الأخلاق العبدية” لم تنشأ من الطغاة، بل من الخوف الجماعي من كل تغيير. نحن لا نخاف السلطة، نحن نخاف من ألا نعرف كيف نعيش بدونها. لذلك نحول آباءنا إلى طغاة، شيوخنا إلى قضاة، ومعلمينا إلى سجانين. لا نحتاج “نظاماً” خارجياً، نحن نحمله في اللاوعي، كما يحمل الطفل صوت والده الموبّخ حتى بعد موته.
وإذا عدنا إلى ابن خلدون، فلن نقرأ فقط عمر الدولة، بل عمر الجماعة، عمر الوعي الاجتماعي، الذي ينتقل من الشدة إلى التراخي، ثم إلى النكوص، لا بسبب فساد السياسة، بل لأن الجماعة لم تعد تملك مشروعاً أخلاقياً جامعاً، سوى استمرارها كما هي. وعندها يصبح التغيير تهمة، والتفكير مخاطرة، والتميز جريمة. وتصبح العودة إلى الوراء، أو البقاء في المكان، هي الضمانة الوحيدة للنجاة.
ما بعد الحفرة، إذاً، ليس حدثاً سياسياً، بل امتحاناً اجتماعياً: هل نجرؤ على التخلّي عن جاذبية الحفرة؟ هل نحتمل أن نعيش في ضوء مكشوف، دون أقنعة، دون همسات خلف الأبواب، دون رقابة خفية في العيون؟ هل نحتمل أن نعيش بحرية، لا فقط أن نطالب بها؟
وهل المجتمع مستعد ليعترف بأنه مريض؟ لا كضحية، بل كمشارك نشط في تصنيع المرض وتوريثه؟
الجواب، للأسف، معقّد. فالمجتمع الذي يسخر ممن يشفى، كما تسخر الدولة من الناجين، هو مجتمع لم يغادر الحفرة أصلًا، بل زين جدرانها، ونظّم العلاقات داخلها، وكتب أناشيد للبقاء فيها، وجعل من النور عدواً.
كل من يخرج، يعود غالباً وهو يعتذر. يعتذر لأنه “غَرّته الحياة”، لأنه “أخذته الحماسة”، لأنه “تجاوز حدوده”. كأن الخروج من الحفرة خطيئة، لا شفاء.
وهكذا نبقى كما نحن: لا في الداخل تماماً، ولا في الخارج فعلياً. نعيش في حفرة اجتماعية مشرّعة، دون سقف، لكننا نعيش فيها ونحن نرفع شعارات الحرية، ندرس الديمقراطية، ننتقد الاستبداد، نطالب بالتغيير… من داخل الحفرة، وبشروطها.
ربما يأتينا يوم لا نحتفل فيه بخروج طاغية من حفرة، بل بخروج جيلٍ كامل من الحفرة الاجتماعية، لا ليتمرد، بل ليعيش كأنه لا يحتاج إلى من يراقبه، ولا من يعاقبه، ولا من يقول له: “مكانك الطبيعي هنا، لا أكثر”.