في العيد نحلم بوطن سعيد


في العيد نحلم بوطن سعيد
كتب رياض الفرطوسي
لا يأتي العيد وحده. يجيء وفي معطفه ذاكرة وطن، ورائحة بيوت، وصوت أمهات كنّ يخبزن الفرح مع فجر أول أيامه. يأتي العيد كموعد يتجدّد فيه اللقاء بين الإنسان ونفسه، بين العراقي ووجهه الذي كاد ينساه في زحمة الصراعات والخذلان. لكنه اليوم، يعود إلينا من نافذة جديدة، لا تحمل فقط الذكرى، بل تلوّح أيضاً بإمكانية الأمل.
العراق، بعد كل هذا النزف، لا يزال واقفاً. الأبواب التي أُغلقت باليأس، عادت تتفتح على خجل. والمدن التي عاشت في ظلال الخوف، بدأت تتلمس ألوان الحياة من جديد. ليس لأنّ كل شيء مثالي، بل لأننا نقترب شيئاً فشيئاً من لحظة نستحقّ فيها أن نحلم، لا بوطنٍ عادي، بل بوطنٍ سعيد.
في العيد، يخرج الأطفال بثياب جديدة، ليس ليثبتوا امتلاكهم، بل لأنهم يشعرون بالأمان، بأن هناك غداً يمكن أن يكون أفضل من الأمس. تُعدّ النساء طعامهن لا على عجل ولا بخوف، ويقف الرجال في طوابير القصابين وهم يتحدثون لا عن انقطاع الكهرباء، بل عن مشروعٍ جديد افتُتح، أو شارعٍ تمّ تعبيده، أو مدرسة أُعيد بناؤها بعد طول خراب.
وهكذا، يتحوّل العيد من مجرّد طقس ديني إلى فرصة لاستعادة المعنى. لا بالحنين فقط، بل بالفعل. لا نريد أن نبكي على بيت الطين، بل أن نبني بيوتاً تحفظ كرامة الإنسان. لا نريد أن نتغنى بالماضي، بل أن نمدّ يداً إليه كي يدلّنا على طريق المستقبل. فالعيد ليس ما نعلّقه من زينة، بل ما نزرعه من قيم.
لقد تعلّمنا، مراراً، أنّ الأوطان لا تُبنى بالخطب، بل بالمحبة. وأنّ العيد لا يكون عيداً إن لم يشعر فيه الجميع أنّهم جزء من الفرح، من الكرامة، من الحياة. وأنّ الكبش الحقيقي الذي يجب أن يُذبح، هو ذلك التوحّش الكامن فينا: الغضب الأعمى، والتمييز الطبقي، والتعالي الطائفي، والنفاق الذي يسكن الكلام العام ويفتقد للفعل الصادق.
في العيد، ليس المطلوب أن نُكثر من التكبيرات فقط ، بل أن نُكثر من المصافحات. أن نصالح جاراً ابتعدنا عنه، أو نصل رحماً ظننّا أن العيد لا يُكتمل بدونها. أن نعترف أننا تغيرنا، وأن البلاد تغيرت، وأننا إن لم نحتفل بهذه التحولات الصغيرة، فقد نخسر اللحظة التي انتظرناها طويلًا.
من كان يتخيّل، قبل سنوات، أن يُقام معرض للكتاب في بغداد يزوره الآلاف؟ أو أن يتجوّل السائحون في أربيل والنجف والموصل وكربلاء والبصرة وميسان؟ أو أن تبني الدولة مدارس رقمية في القرى وتربطها بالأقمار الصناعية؟ أو أن يخرج العراقي من بيته دون أن يلتفت خلفه أكثر من مرّة؟ كلّ هذا ليس كافياً، نعم، لكنه كافٍ لنقول: نحن لسنا في المكان ذاته الذي كنا فيه.
لهذا، في العيد، نحتاج أن نحلم. لا أن ننسى، بل أن نتجاوز. أن نحمل الجرح دون أن نحوله إلى قبر، ونحمل الذكرى دون أن نتحول إلى متحف. نريد عيداً نستطيع فيه أن نقول لأبنائنا: نعم، نحن الذين مشينا فوق الرماد، وها نحن نحمل إليكم قبس الحياة.
فلتكن خُطانا هذا العيد خفيفةً لا على الأرصفة فقط، بل على أرواحنا أيضاً. لنصافح من نختلف معهم، لنشارك أرغفتنا مع الأرامل، لنلبس اليتامى من قلوبنا لا من فائض خزائننا. لنجعل من العيد لحظة يتساوى فيها ابن المسؤول مع ابن العامل، ومائدة الكبير مع طاولة البسيط. لأن العراق، حين يتساوى فيه العيد للجميع، يكون قد استعاد شيئاً من عدالته المفقودة.
لا نريد أن يكون العيد كرتونة مساعدات، بل صحناً من المحبة، ورغيفاً من الكرامة، ودمعة فخرٍ لا دمعة قهر.
أيها العراقيون، لا تسألوا هذا العيد: ماذا بقي لنا؟ بل اسألوا: ماذا يمكن أن نضيف لهذا الوطن كي يصير سعيداً حقاً؟
لنُطلق للحلم مداه، فقد صار الممكن أقرب مما نظن. ولنُرجِع للعراق ابتسامته، لا مرسومةً على وجه لصّ أو مدّعٍ، بل في ملامح طفلٍ صغير، يركض في حيّ شعبي، قابضاً على عيديته، ويهمس لأمه: العيد أحلى هالسنة… لأن كلشي هادي.”
العيد لا يُقاس بما نأكله أو نلبسه، بل بما ننجزه من سلام، من ألفة، من عفو، من عودة لحقيقتنا البسيطة النبيلة.
في العيد… نحلم بوطن سعيد.
فلنبدأ.