“المال السري والنخبة الدولية..فضيحة البنك الدولي التي هزّت ضمير العالَم”


رسول حسين
في الثالث عشر من فبراير عام 2020، تقدمت الدكتورة بينيلوبى (بيني) جولدبيرج، كبيرة الاقتصاديين في البنك الدولي، باستقالتها المفاجئة بعد خمسة عشر شهراً فقط من تعيينها. لم تكن جولدبيرج مجرد موظفة بيروقراطية في مؤسسة مالية كبرى، بل كانت أستاذة مرموقة في جامعة ييل الأميركية، وعضواً في الأكاديمية الوطنية للعلوم – أرفع مؤسسة علمية في الولايات المتحدة. أثارت استقالتها، التي دخلت حيّز التنفيذ في الثامن والعشرين من الشهر ذاته، موجة عارمة من الأسئلة، والشكوك، والهمس في أروقة الاقتصاد والسياسة الدولية.
ورغم غموض الأسباب عند وقوع الحدث، فإن القصة لم تظلّ في الظلّ طويلاً. فبعد خمسة أيام فقط، في الثامن عشر من فبراير، ظهر بحث مثير للجدل على موقع جامعة كوبنهاغن الدنماركية تحت عنوان “Elite Capture of Foreign Aid” – أي “استحواذ النخبة على المساعدات الأجنبية”. ولم يكن ظهور هذا البحث مصادفة. بل شكّل بداية لانكشاف واحدة من أكبر الفضائح الأخلاقية في تاريخ البنك الدولي.
من هي بينيلوبى جولدبيرج؟، من مواليد أثينا، اليونان، كانت جولدبيرج دائماً رمزاً للصلابة العلمية والنزاهة الأكاديمية. حازت الدكتوراه من جامعة ستانفورد، ثم شغلت مناصب أكاديمية مرموقة في جامعات برينستون وييل. تخصصت في قضايا التجارة الدولية، وآثار العولمة، والاقتصادات النامية، ونالت شهرة واسعة على المستوى الأكاديمي، وتكريمات دولية. وعندما تم تعيينها كبيرة الاقتصاديين في البنك الدولي عام 2018، احتفت الأوساط الأكاديمية والمالية بهذا التعيين، واعتبرته خطوة نحو إعادة الاعتبار للعقلانية والنزاهة في قلب صناعة القرار الاقتصادي العالمي.
لكن ما لم يكن في الحسبان، هو أن ضمير جولدبيرج المهني سيصطدم بحائط من المصالح والضغوط، سيجعلها تقرر الانسحاب، لا من منصب، بل من لعبة دولية تتقاطع فيها السلطة بالمال، ويختلط فيها الإنقاذ بالنهب.
كان من صميم عمل جولدبيرج، كمشرفة على الشؤون البحثية في البنك الدولي، أن توجّه التمويل والدعم لمشاريع علمية تحليلية ذات علاقة مباشرة بتقييم أداء البنك في مهامه حول العالم. من هذا المنطلق، أقرّت تمويل دراسة قام بها ثلاثة باحثين: الأول من كلية إدارة الأعمال في النرويج، والثاني من جامعة كوبنهاغن، والثالث أحد كبار الاقتصاديين في البنك الدولي نفسه.
كان هدف البحث بسيطاً وخطيراً في آن: التحقق من العلاقة بين توقيت استلام الدول النامية للمساعدات والقروض المقدمة من البنك الدولي، وظهور زيادات مفاجئة في التحويلات المالية من تلك الدول إلى حسابات بنكية في الملاذات الضريبية.
توصل البحث، الذي اعتمد على تحليل بيانات من أكثر من 22 دولة نامية على مدى سنوات، إلى أن هناك نمطاً متكرراً: بعد أيام قليلة من استلام الدفعات الأولى من القروض أو المنح من البنك الدولي، تحدث زيادات كبيرة – قد تصل إلى ثلاثة أضعاف – في حجم التحويلات المالية إلى حسابات خارجية في دول مثل سويسرا، لوكسمبورغ، وجزر الكايمان.
وكانت هذه التحويلات لا تصدر عن شركات تجارية، بل من شخصيات نافذة، على الأغلب تنتمي إلى الطبقات العليا من الطبقة الحاكمة أو المرتبطة بها. وقد استخدم الباحثون آليات متقدمة لتتبع هذه التحويلات، معتمدين على تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات البنكية مجهولة المصدر.
ما إن اطّلعت جولدبيرج على نتائج البحث، حتى أدركت عمق الكارثة الأخلاقية التي تواجهها. كيف يمكن لمؤسسة يفترض أنها تسعى إلى محاربة الفقر، أن تكون، من حيث لا تدري أو بتواطؤ، أداة في نقل أموال المساعدات إلى حسابات خاصة في الخارج؟
طالبت جولدبيرج، بصفتها مسؤولة عن الأبحاث، بنشر نتائج الدراسة في تقارير البنك الدولي الرسمية، إعمالاً لمبدأ الشفافية. لكن قوبلت هذه الخطوة بمقاومة شديدة من الإدارة العليا، بل وهناك من حذّر من “العواقب السياسية والاقتصادية” لنشر مثل هذه الدراسة.
رفضت جولدبيرج التراجع. وعندما لم تجد استجابة، قررت أن تقدم استقالتها، وترسل رسالة ضمنية للعالم أن هناك ما لا يُقال، ويجب أن يُقال.
في 18 فبراير، ظهر البحث على موقع جامعة كوبنهاغن. كان هذا خرقاً لصمت البنك، وإعلاناً أخلاقياً أن هناك من لا يخضع للضغوط. لم يمر سوى ساعات حتى اضطر البنك الدولي إلى نشر البحث على موقعه، لكن بعد أن أصبحت الاستقالة العلنية سابقة لا يمكن كتمانها.
أحدث البحث، وما تبعه من استقالة جولدبيرج، دوياً واسعاً في وسائل الإعلام العالمية. نشرت صحف مثل “واشنطن بوست” و”الغارديان” و”لوموند” تقارير تحليلية عن خطورة النتائج، وشككت في مدى التزام المؤسسات الدولية الكبرى بمبادئ الشفافية.
كما علّق اقتصاديون بارزون على ما وصفوه بـ”الفشل البنيوي” في نظام الإشراف على القروض والمساعدات، الذي يسمح للنخبة في بعض الدول النامية بأن تحوّل المساعدات إلى أداة إثراء شخصي.
لم تكن جولدبيرج أول من يرفع راية الاعتراض. ففي عام 2018، استقال بول رومر، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، من منصب كبير الاقتصاديين في البنك الدولي، بعد أن كشف عن تلاعب في مؤشر “سهولة ممارسة الأعمال”، حيث تم تغيير ترتيب بعض الدول بناء على ضغوط سياسية.
مثل استقالة جولدبيرج، كانت استقالة رومر صفعة على وجه المؤسسة الدولية، ودليلاً إضافياً على وجود منظومة داخلية ممانعة للتغيير، ومحافظة على مصالح سياسية ومالية تعيق الشفافية.
الأسئلة الجوهرية التي يطرحها هذا الحدث تتجاوز قصة جولدبيرج، وتمس جوهر النظام المالي العالمي، هل تخدم المساعدات التنمية أم تُستغل لأهداف فاسدة؟، ما الذي يمنع البنك الدولي من فرض رقابة صارمة على تحويل الأموال بعد صرف القروض؟، إلى أي مدى يمكن الوثوق بإحصاءات وتقارير المؤسسات الدولية؟، هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات، لكن الأهم أن تجد طريقها إلى إصلاح هيكلي جذري في سياسات المراقبة والمحاسبة.
أثبتت هذه الفضيحة أن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي. فبدون نظام شفاف، وآليات مراقبة مستقلة، يمكن أن تتحول المساعدات إلى وقود للفساد.
يجب على البنك الدولي، وبقية المؤسسات المانحة، أن تُخضع عملياتها لرقابة دولية مستقلة، وتسمح بنشر الأبحاث دون رقابة سياسية. كما يجب فتح قنوات تواصل مباشر مع الشعوب والمجتمعات المدنية، لضمان وصول المساعدات إلى من يحتاجونها فعلاً.
استقالة بينيلوبى جولدبيرج ليست هروباً، بل صرخة ضمير. صرخة تقول إن العقل العلمي يجب ألا يُدجَّن، وإن النزاهة ليست شعاراً بل موقفاً. وبينما تواصل النخب الاقتصادية لعبتها الكبرى، يبقى الأمل في علماء مثل جولدبيرج، يقفون في وجه الجبروت بالعلم، وفي وجه النفاق بالشجاعة.
وهكذا، لم تكن هذه الفضيحة مجرد حادثة عابرة، بل لحظة فاصلة تعرّي الواقع، وتفتح باب الحقيقة أمام عالَم يبدو أحياناً كأنه يفضّل الجهل على المعرفة، والصمت على الكلام، والمصالح على المبادئ.
إنها دعوة إلى ضمير العالَم: لا تتركوا العلم رهينة في أيدي الساسة.





