آخر الأخبار
ألمقالات

وجوه لا نراها

” وجوه لا نراها ”

كتب رياض الفرطوسي

ليس كل ما نراه هو ما جرى فعلًا، ولا كل من نلقاهم هم كما يبدون. في الأزمنة المتسارعة، التي تُختصر فيها الحياة إلى مواقف عابرة وتغريدات حادة، يتوارى الإنسان الحقيقي، يختبئ تحت قشرةٍ صلبةٍ من التوقعات، من التصنيفات، من المسميات التي لُصقت به كما تُلصق اللافتات على الجدران المهجورة.

ثمّة من يشبهون الظلال، لا لأنهم رماديون، بل لأنهم تعمّدوا الابتعاد عن ضوء التصنيفات. أولئك الذين لا تُعرف ملامحهم بسهولة، ولا تُترجم حياتهم إلى رأي جاهز. يعيشون بعيداً عن الضجيج، يرفضون الاصطفاف، لا لأنهم بلا رأي، بل لأنهم يعرفون أن للرأي ضريبة حين يتحول إلى جدار يفصل، لا جسر يُفهم من خلاله الآخر.

كم من مرة رفع أحدهم رايةً ناصعة، ثم دسّ في طرفها خيطاً خفياً من النوايا. وكم من الذين اتُّهِموا بالصمت، كانوا في الحقيقة يصرخون بصوتٍ لا تلتقطه ميكروفونات القطيع. إن الحقيقة، في أحيان كثيرة، لا تنطق، بل تُلمَس. وتلك اللمسة لا تأتي إلا لمن يقترب دون حكم، دون أن يحمل بيده ميزاناً أو سيفاً.

الذين سقطوا من دوائر التصنيف هم من تبقّى لنا لنفهم بهم اتساع الحياة. الذين لم يصرخوا معنا، ولم يشتموا خصومنا، ولم يشاركوا حفلات التشهير، هم وحدهم الذين ما زالوا ينتمون إلى شيء أعمق: الصدق العاري من الحاجة إلى التصفيق.

ما أصعب أن تبقى في المنتصف، لا لأنك متردّد، بل لأنك ترى الجهتين بعين واحدة. في هذا المكان المنسي بين المعسكرات، تنمو الأسئلة مثل نبات بريّ. لا يرويه إعلام، ولا تكتبه المقالات التي تحترف الاستقطاب. إنه سؤال قديم: هل يمكن أن نكون صادقين دون أن نُستغل؟ هل يمكن أن نفكر دون أن يُحسب تفكيرنا لصالح طرف ضد آخر؟

نحن نعيش في عصر لا يثق بالمُتروّي. المتحمّسون هم من يشغلون المشهد، يملكون الحماسة أكثر مما يملكون الحُجّة. ومن لا يُصفّق يُتّهم بالخيانة، ومن لا يكره العدوّ بنفس اللهجة يُشبهه. وهكذا يُمحى الوجه الإنساني، وتبقى الأقنعة وحدها مرئية.

الذين لا تُعرف ملامحهم لا يسكنون الشاشات، ولا يطرقون أبواب الميديا. تراهم في المقاهي الصامتة، في الهامش، في دفتر صغير على طاولة قديمة، يكتبون لا ليُقنعوا أحداً، بل لأن الصدق لا يتحمل السكوت أكثر.

نحتاج إلى إعادة اختراع نظرتنا للآخر. أن نكفّ عن فحص الجباه بحثاً عن علامة الولاء، وأن نتعلّم من جديد كيف ننصت دون أن نستعدي، كيف نختلف دون أن نُقصي، وكيف نُبقي مسافة كافية لنتأمل، لا لنحكم.

ثمة بشر لم يصرّحوا بما مرّوا به، ليس خوفاً، بل لأن العالم لم يكن مستعداً لسماعهم. هؤلاء لا يُكتب عنهم في السير، لكنهم مَن حافظ على شرف الكلمة في عالم يتاجر بكل شيء.

الحقيقة ليست ساطعة. إنها غالباً شاحبة، تمشي على أطرافها، تخجل من الظهور وسط الجلبة. لكنها – حين تُرى – تُغيّر كل شيء. وكل من عرفها، عاد أقل يقيناً وأكثر رحمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى