آخر الأخبار
ألمقالات

كلشي وكلاشي

 

كتب رياض الفرطوسي

في بلادٍ تتكاثر فيها الألقاب كما تتكاثر الفقاعات على سطح ماء راكد، وتتناسل فيها المسميات مثل الفطريات على جدران الرطوبة الثقافية، يخرج علينا من لا يكتفي بأن يكون شيئاً واحداً، بل يدّعي أنه كل شيء. يقدّم نفسه بوصفه الصوت الأعلى، والعقل الأذكى، والضمير الأصفى، والبديل الأوحد، وهو في حقيقته لا يتقن شيئاً إلا فنّ الادعاء. إنه “كائن الكلشي وكلاشي”، المخلوق المتعدد الأقنعة، المهجَّن بين كل التناقضات، والمتغذّي على وهم امتلاك كل المفاتيح دون أن يفتح بها باباً واحداً.

هو خريج إدارة، لكن ذلك لا يمنعه من أن يُسوّق نفسه باعتباره إعلامياً محنّكاً، ومثقفاً تنويرياً، وفيلسوف مرحلة. تاجر سجائر ، لكنه مؤسس تيار سياسي له اسمٌ طنان، يُصدر البيانات العاصفة، ويتحدث كمن يُمسك بخيوط اللعبة كلها. مهرب غنمٍ عبر الحدود، لكنه يصعد المنابر ويتلو خطب التغيير وكأن التاريخ خرج من خاصرته، ويطالب بإسقاط الدولة وهو يتغذّى على فتاتها.

ينشر سيرته الذاتية، فتكتشف أنها مليئة بالأخطاء اللغوية، والأسطر المسروقة، والمآثر المختلقة. يوقّع كتباً كتبها غيره، ويعرض صوراً من حياته لم يعشها. يتحدث عن الثورة الفرنسية وهو لا يعرف موقع باريس على الخريطة، ويحاضر في الاقتصاد السياسي دون أن يفرّق بين الموازنة والميزانية. يقتبس من نيتشه وسبينوزا وفوكو، لكنه لم يقرأهم إلا على أغلفة الصفحات.

هو نموذج الكائن المتلون، المتملق، الوصولي، الجاهز دائماً لـ”تصفيط” الكذب كما يُصفّف الشعر على وجه الوهم. يُتقن خداع الآخرين، ويُوهمهم بأنه صاحب قدرات خارقة، يصنع الهالة من اللاشيء، ويُقنع البسطاء بأنه حامل الأسرار الكبرى. شخصيات كهذه ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل فقاعات بشرية خطيرة، تتمدد فوق سطح المجتمع وتخفي تحته خواءً أخلاقياً وثقافياً فادحاً. تشخيصها واجب، وفضحها ضرورة، والتنبيه إلى ألا تُوكل لها المهام والمناصب يُعد مسؤولية مجتمعية لا بد أن يتحمّلها كل حريص على الكفاءة والنزاهة والوضوح.

والحقيقة أن هذه الكائنات لا تملك طاقة البقاء إن لم تجد من يحتضنها. فهي، في جوهرها، أشبه بالطفيليات الثقافية، لا تعيش إلا في بيئة تسمح لها بالنمو، وتوفّر لها وسائل التسلّق. وإذا غاب الراعي الذي يميّز الطالح من الصالح، سيتحول المشهد إلى مهرجان تنكري دائم. فـ”أخلاق الشعوب من أخلاق أمرائها”، وإذا لم يتحلَّ صاحب القرار برؤية استراتيجية تفرّق بين التافه وذوي الكفاءة، فإن الرداءة ستتفشى على حساب الجودة، ويصبح المستقبل رهينة للمحتالين.

في منطقتنا مثلًا، عرفنا من كان يرتدي الزيتوني، رفيقاً وفدائياً، ثم بعد سقوط الطاغية تحوّل فجأة إلى قارئ قرآن وعابد ناسك، يتنقّل بين القنوات والصالونات، وكأنما مسّه وحي. لا قناعة، بل براعة في تقمص الأدوار. ومع هذا التحول، تحوّلت المقاييس أيضاً : إذ لم يعد المعيار هو العمق، بل الضجيج. لم تعد القيمة في الجوهر، بل في الشهرة. فحين وجدت التفاهة بيئتها، أخذت حيزها بطمأنينة، وانتقلت من الهامش إلى المتن، ومن الهزل إلى الإدارة.

فجأة، أصبح كل من يملك حساباً إلكترونياً، أو يُتقن رقصةً في فضاء التواصل، مرموقاً، متميزاً، له جمهور، وله دعاة، وله رُعاة. شركات الإعلان باتت تستقدمه ليمثّل منتجاتها، حتى وإن كان خفيفاً كالريشة. وما دام الناس يصفقون، فالفراغ يكبر، والغربة تشتد؛ غربة المعاني، وغربة القيم، وغربة الأشياء عن أسمائها.

هو خبير الصراعات الكبرى: يعرف مشكلات الحدود في المكسيك، ويحلّل المجاعات في الصومال، ويتقن تفكيك “حرب النجوم” بلغة أيديولوجية متوترة. لكنه في بيته، يعجز عن تنظيف مدخله من النفايات، أو تحرير نص بلا عيوب. يتقن التنظير في التحول الديموغرافي وهو لا يعرف كيف يتحول من فكرة إلى سلوك. يعيش على التناقض، ويقتات من التلون، ويتنفس التناقضات وكأنها أكسجينه الوحيد.

لقد غرق هذا الزمن في طوفان من أمثاله؛ زمن اختلط فيه الضجيج بالجدارة، والعرض بالجوهر، والتزييف بالحقيقة. صار كل من يرفع صوته مثقفاً، وكل من يختلق عنواناً قائداً، وكل من يحشد حوله صورة أو شِلة يُصنّف مصلحاً. هكذا تضيع البلاد في ضجيج لا ينتج فكراً، ولا يؤسس وعياً، ولا يصنع شيئاً غير الرماد.

“كلشي وكلاشي” ليست نكتة في الشارع العراقي، بل مأساة متكررة، وكابوس يرتدي ربطة عنق. إنها مرآة لزمن فقد غرباله، وفقد موازينه، وفقد شجاعته في قول “لا” لمن يستحق أن يُقصى، لا أن يُصفق له. في هذا الزمن، حيث يُرفَع المزيف ويُنسى المُجتهد، نحتاج إلى وعيٍ جمعي يفرّق بين الصوت والصدى، بين المعنى والقشرة، بين من يعرف، ومن يدّعي أنه يعرف كل شيء، وهو لا شيء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
أفتح الدردشة
اهلا بك في وكالة الراصد نيوز24
كيف يمكنني مساعدتك؟