آخر الأخبار
ألمقالات

صوت العراق في زمن الارتباك الدولي

 

كتب رياض الفرطوسي

يمر العالم بلحظة مضطربة، كأنها عاصفة بلا بوصلة، تتقاذف فيها الأحداث الكبرى مصائر الشعوب، وتفكك أنسجة النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب الباردة. فما بين الحروب الاقتصادية، والانهيارات الأخلاقية، والمخاوف النووية، وصعود السياسات الانعزالية، باتت البشرية كمن يسير فوق حبل مشدود فوق هاوية لا قرار لها.

من قلب هذا المشهد، تعود الولايات المتحدة بقيادة الرئيس دونالد ترامب إلى تصدُّر المشهد، لا كقوة عاقلة في ميزان العالم، بل كلاعب يُشعل التوترات أينما حلّ. فالضربة التي وجهها ترامب للنظام التجاري الدولي، من خلال رفع الرسوم الجمركية إلى مستويات غير مسبوقة، لم تكن قراراً اقتصادياً فحسب، بل إعلاناً صريحاً عن نهاية عهد التعددية، وبداية سياسة “أنا ومن بعدي الطوفان”. وقد انعكست هذه السياسات فوراً على الأسواق العالمية التي ارتبكت، وتكبدت خسائر بمليارات الدولارات، ودخلت في موجة من الذعر دفعت دولاً كثيرة إلى إعادة ترتيب أولوياتها.

وفي الموازاة، يتداعى الإطار القيمي الذي طالما تغنّى به الغرب: حقوق الإنسان، مناصرة المظلومين، العدالة الدولية. غزة، التي تمزقها آلة الحرب الإسرائيلية، تُركت فريسة لمعادلة صامتة: الأقوياء يقررون، والضعفاء يُسحقون. المحكمة الجنائية الدولية، الأونروا، بل حتى الأمم المتحدة نفسها، أصبحت هدفاً لمحاولات التفريغ من الداخل، حيث تُقطع عنها التمويلات أو تُجرّ إلى التسييس القاتل. وكأن العالم يُهيّأ لقبول شريعة الغاب من جديد.

وسط هذا الجنون الدولي، يظل الشرق الأوسط ساحة النار المفتوحة، وإيران محورها الحي. فقد تصاعدت في الشهور الأخيرة التهديدات المتبادلة بينها وبين إسرائيل، تتوعد كل واحدة الأخرى بضرب منشآتها النووية، بينما يقف العالم على أطراف أصابعه مترقباً شرارة قد تُشعل حرباً لا تُبقي ولا تذر. والأنكى أن هذا التصعيد يُدار بدم بارد، وكأنه لعبة شطرنج دولية، تُحرك فيها البيادق دون اكتراث لدماء الأبرياء.

لكن من رحم هذه الفوضى، يلوح مشهد آخر، أقل صخباً لكنه أكثر أهمية: العراق، الذي يستعد لاحتضان قمة عربية مفصلية، بالتزامن مع اقتراب انتخابات تشريعية بعد ستة أشهر فقط. فهل يمكن لهذا البلد الجريح، الذي نُهِش من كل جانب، أن يُعيد إنتاج دوره العربي والدولي؟ وهل يمكن لبغداد أن تقول كلمتها، فيُسمع صوت العراق من جديد؟

إن انعقاد القمة العربية في بغداد ليس حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل لحظة رمزية بالغة الدلالة. فهي تضع العراق من جديد في قلب النقاش العربي حول القضايا المصيرية، لا سيما مع استمرار المأساة الفلسطينية، وتصاعد التهديدات ضد لبنان وسوريا واليمن، واستمرار حالة الشلل السياسي في ليبيا والسودان. ولعل حضور العراق في هذا السياق، بقوة الإرادة لا بقوة السلاح، يمثّل فرصة تاريخية لإعادة التوازن إلى معادلة مائلة منذ زمن.

وليس العراق وحده المعني بهذه التحولات، بل كل من في الإقليم ينتظر موقفاً يُخرجه من ربقة الاستقطاب الحاد. فإما أن تستسلم الدول للواقع الدولي المرتبك، وتختبئ خلف الحياد العقيم، وإما أن تتقدم برؤية جديدة، عقلانية، واقعية، تحفظ مصالحها دون أن تغفل عن القيم الكبرى التي لطالما شكلت جوهر الخطاب العربي.

أما الانتخابات العراقية المقبلة، فهي الامتحان الأهم، لأنها تمثل لحظة مواجهة مباشرة بين إرادة الناس وبين عقلية الاحزاب. فإما أن تنتصر الإرادة الشعبية، فتُحدث تغييراً نوعياً في بنية الدولة، أو تظل الدوامة مستمرة، وتُعيد إنتاج شخوص أثبتت التجارب السابقة فشلها أو فسادها أو كليهما.

وفي هذه اللحظة الحساسة، لا بد من التذكير أن العراق لا يعاني فقط من مشكلات داخلية، بل من موقعه في خريطة السياسة الدولية. فكلما ضعفت الجبهة الداخلية، تمددت التدخلات الخارجية، وكلما غابت الرؤية الوطنية، حضرت الأجندات الأجنبية. ولذلك فإن الخيار الآن ليس بين مرشح وآخر، بل بين مشروع دولة ومشروع هيمنة.

كما كتب المفكر اللبناني مهدي عامل (1936–1987): “حين يغيب الوعي السياسي، تتحول الديمقراطية إلى وهم، والانتخابات إلى طقس فارغ”. ولذلك، فإن الرهان الحقيقي ليس فقط على نتائج الانتخابات، بل على وعي الناخب، وعلى قدرته في فرز البرامج من الدعايات، والمواقف من المناورات، والأمل من الوهم.

لا شك أن المهمة صعبة، في ظل أجواء اقتصادية خانقة، وخطاب شعبوي يملأ الفضاء، وذاكرة مثقلة بالإحباطات. ولكن، في السياسة كما في الحياة، لا تصنع الأمم الكبرى من الترف، بل من الألم. والتاريخ مليء بشواهد الشعوب التي نهضت من تحت الركام، حين توافرت لها الإرادة.

يقول الفيلسوف الألماني هيغل (1770–1831): “لا يصنع التاريخ أولئك الذين يعرفون فقط، بل أولئك الذين يملكون الشجاعة على الفعل”. واليوم، نحن بحاجة إلى هذا الفعل: أن يخرج العراقي من صمته، أن يُدلي بصوته، أن يُطالب بحقه، أن يحاسب من خذله، ويمنح ثقته لمن يستحق.

إن خيار التواطؤ مع الفوضى ليس قدَراً، وخيار الاستسلام للأحادية ليس حتمياً. بل ثمة خيار ثالث، وهو ما نُسميه في السياسة “العقل الاستراتيجي”. وهذا العقل لا يعني التسويات الهشة، بل التوازن القوي القائم على فهم المتغيرات وتوظيفها لصالح الداخل.

العراق اليوم ليس ضعيفاً، بل هو فقط بحاجة إلى تصالح مع ذاته. أن يصغي لصوت شعبه أكثر من أصوات الخارج. أن يراهن على شبابه أكثر من رهانه على الأحزاب. أن يستثمر في وعيه وتاريخه لا في حسابات المصالح الضيقة. وهذا وحده ما سيجعل صوته يعلو فعلًا في زمن الارتباك الدولي.

ومن هنا، تتجه الأنظار إلى أبناء العراق، إلى صوتهم الحر حين يقف أمام صناديق الاقتراع بعد شهور قليلة. فهذه الانتخابات ليست مجرّد استحقاق دوري، بل لحظة مفصلية يُعيد فيها العراقي تعريف العلاقة بينه وبين دولته. إنها فرصة لاختيار من يحكم لا بالشعارات بل بالكفاءة، لا بالولاء الحزبي بل بالإخلاص الوطني، لا بمنطق الغنيمة بل بروح الخدمة العامة. كتب زكي نجيب محمود (المفكر المصري، 1905–1993): “ليست الحرية أن تقول ما تشاء فحسب، بل أن تختار من يصون حقك في أن تقول ما تشاء.”

إننا بحاجة لصوت عراقي لا يُدجّن، لا يُشترى، لا يُستدرج إلى فخ الوعود الزائفة. صوت نقيّ يخرج من رحم المعاناة ليرسم ملامح وطن يستحق الحياة. فكل ورقة اقتراع تُمثل إمضاء على عقد جديد مع العراق: عقد يُعيد للناس كرامتهم، وللمؤسسات هيبتها، وللدولة معناها. هذه لحظة نادرة يُمكن للعراقي أن يكون فيها حجر الزاوية، لا طرف المعادلة، فليكن صوته عالياً، وقراره حراً، وإرادته سيّدة.

بهذا وحده، وبذلك الصوت الصافي في خضم الضجيج، يُمكن أن تكون القمة في بغداد بداية لصعود مشروع وطني جديد، مشروع عراق يتكلم لا همساً ولا خجلًا، بل بوضوح وجرأة في زمن الارتباك الدولي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
أفتح الدردشة
اهلا بك في وكالة الراصد نيوز24
كيف يمكنني مساعدتك؟