فرّ السكان


كتب رياض الفرطوسي
في كل بلد تتقاطع فيه الحقيقة مع المصالح، يُولد خطابٌ مشوّه، وتُعاد صياغة الوقائع على يد من لا يتقنون سوى لغة المراوغة والتدليس. أولئك الذين يعيشون على هامش اللحظة، ويعدّون كل حدثٍ سُلّماً نحو طموحٍ مريضٍ لا يرتفع إلا على أنقاض الآخرين، لا يملكون مشروعاً إلا تأليه أنفسهم، ولا يعرفون السياسة إلا حين تكون وسيلةً لتصفية الخصوم أو تسويق القبح.
هؤلاء لا يسمّون الأشياء بأسمائها، لأن الأسماء عندهم ليست دلالات بل أقنعة، ينزعونها ويلبسونها كما يُغيّر الوصولي قناعه كلما ضاق الممر أو اتّسع. هم لا يتناقشون، بل يزايدون. لا ينتقدون، بل ينهشون. لا يعارضون من أجل فكرة، بل يخاصمون من أجل مقعد. لا يعرفون معنى الانتماء، لأنهم لا ينتمون إلا إلى ظلّهم، وكل ظلّ متحرّك هو حليف محتمل أو عدو محتمل، حسب الزاوية التي تسقط عليها شمس المنصب.
وحين تبدأ دورة جديدة من الصراع، تراهم يخرجون من صمتهم كالعفن من شقوق الجدران. يصرخون، يحتجون، يتوعّدون، يُطلقون العنان لجيشٍ من الأصوات التي لا تعرف الفرق بين النقد والهدم، ولا تفرّق بين المشروع والانتهاك. يتكاثرون كالأشباح في الممرات المعتمة، يملؤون الفضاء بالتحريض والتأويل والتسخيف، لأنهم ببساطة لا يتحملون فكرة أن يكون هناك من يستطيع الفعل من دون وصايتهم، ومن يتحرك من دون أوامرهم، ومن ينجح خارج سردياتهم المعلبة.
هم أبناء العطالة السياسية، وورثة البلاغة الجوفاء. يتقنون رسم الأقواس على أفواههم، وتعبئة الكلام بالمرارة لا بالفكرة. يحرّضون على من يختلف، ويجرّمون من يجرؤ، ويشيطنون كل من لا يخضع لمقاساتهم الفكرية والطائفية والحزبية. في عالمهم، لا وجود لحقيقة خارج عقيدتهم، ولا مكان لرأي خارج دكاكينهم. كل من لا يشبههم، خائن أو عميل أو ضال، وكل من يشبههم، حتى لو كان صامتاً كالقبر، فهو “وطني أصيل”.
لقد تعلّموا فن التزوير حتى صار جزءاً من طبيعتهم، وتربّوا على منطق الغنيمة حتى لم يعودوا يرون في الوطن إلا مائدة يجب اقتسامها. عيونهم لا تبصر إلا المقاعد، وأفواههم لا تنطق إلا بما يضمن البقاء في الحلبة، ولو على حساب المعنى والناس والمستقبل.
هم لا يختلفون إلا حين تضيق الكعكة، ولا يصطفّون إلا حين تهب رائحة الانتخابات. عندها تشتعل حناجرهم بكل ما يمكن أن يشعل الفتنة: تارة باسم الهوية، وتارة باسم المظلومية، وتارة باسم العدالة، وما هي إلا أسماء أخرى لحقيقتهم الغائبة: الجوع إلى السلطة، ولو كلّفهم ذلك تمزيق البلاد على أوراق بياناتهم.
أي عقلٍ هذا الذي لا يرى في السياسة إلا سلماً مكسوراً نحو مجدٍ مؤجل؟ أي ضميرٍ هذا الذي يسوّغ أن تُجزّأ المواقف كما يُجزّأ الدين في مواسم الفتنة؟ إنهم لا يعرفون الاتساق، لأنهم لا يمتلكون نواة فكرية صلبة، ولا رؤيا تُقاس بها المواقف. لهذا تجد الواحد منهم ينتقل من ضفة إلى أخرى كما تنتقل الحشرات في الحقول، لا تبالي بالزهور بل تبحث عن رطوبة تتكاثر فيها.
الحقيقة عندهم لا معايير لها، بل أهواء تكتب على لوح الغرض. يغضبون حين يُحجب الضوء عنهم، ويهلّلون حين تنطفئ شمعة خصمهم، ولو كان على تلك الشمعة مصير وطن بأكمله. وما أكثر ما كسروا الشموع، وما أقل ما أناروا شيئاً.
هؤلاء لا يمكن أن يُحاورهم العقل، لأن العقل لديهم موظف صغير في وزارة النفاق. والمنطق عندهم لا يُستعمل إلا لتبرير الانقلاب على كل من لا يمنحهم شرف أن يكونوا وصيّاً عليه. لذلك تراهم يلعنون من مدحوه بالأمس، ويغسلون أيديهم ممن أوصلوه بأصواتهم، لأنهم لا يعرفون وفاءً ولا يدينون بولاء إلا للحظة، واللحظة عاقّة، لا تحفظ لأحد وجهه الثاني.
وإذا كان ثمة من أمل، فهو ألا تُترك الساحة لهؤلاء الذين تسرّبوا من ثقوب الخطاب الفارغ، وألا يُسكت الصوت العاقل تحت ثقل الصراخ المتصنّع. فلا وطن يُبنى على تصفية الحسابات، ولا مستقبل يولد من رحم الشتيمة.
نحتاج اليوم إلى ضوء جديد، لا يخاف من أن يُقال له إنه مختلف. نحتاج إلى أصوات لا تُربكها الحملات المسعورة، ولا تساومها الجوقة الجاهزة للنباح عند الإشارة. نحتاج إلى وجوه لم تُستعمل من قبل، وإلى ضمائر لم تُؤجّر، وإلى عقل لا يجزئ الحقيقة بحسب المصلحة والعقيدة والرغبة، بل يراها كما هي: كاملة، محرجة، شجاعة، عصيّة على الترويض.
فمن لم تُرعبه رعشة المنصب، لن يُرعبه زعيق الطارئين.