آخر الأخبار
ألمقالات

ألمواطن : التابع

 

كتب رياض الفرطوسي

لم يكن العراقي يوماً مواطناً، بل كان رقماً في دفتر الحاكم، أو طيفاً شاحباً في مهرجانات الهتاف، أو يداً مرفوعة في استفتاءات التسعة والتسعين بالمئة. في بلاد تُوزّع فيها الأوطان كما تُوزّع الحلوى في مواسم التهريج، وتُمنح فيها صفة “المواطنة” كتزكية، كعطية من يد الحاكم أو شيخ القبيلة أو سيد الطائفة، لم يُكتب للإنسان أن يكون إنساناً، بل ظلاً لمنصّة، أو نغمة في موكب، أو حجراً في قلاع الطغيان.

منذ سنوات الدم والبيادق، لم تكن مفردة “مواطن” سوى كمامة لغوية تخفي خلفها دلالات التبعية والإذلال. المواطن، وفق القاموس العراقي الرسمي، هو الحارس، المدلك، المصوّت، القهوجي، البوق، المتفرج، الكناس، وأحياناً، الجثة. أما حقوقه، فتُمنح له كصدقات موسمية: حقيبة تموينية، كهرباء لساعات معدودات، راتب مهين، بطاقة انتخابية ملوّثة بدم الضحايا.

لم يكن الأمر وليد صدفة ولا من بنات خيال عسكري سكران أو شاعر بلا جمهور، بل منظومة متكاملة، عقيدة سياسية أسستها أنظمة لم تؤمن يوماً بأن الإنسان قيمة، بل رأت فيه مجرد أداة لحراسة النظام أو وقوداً لاحتفالات النصر الزائف. في زمن ( الكاولية )، حيث تُدار الدولة من الخيم ومجالس النميمة، كانت القرارات الكبرى تُصاغ بين راقصة وكأس ومسدس. يكفي أن تتذكّر لحظة القبض على أحد أعتى الجزارين بعد سقوط الطاغية، وقد بال على نفسه بين غانيتين، لنعرف كم كانت الدولة “شخصية”، وكم كان العراق مجرد عقار خاص على شكل وطن.

وحين يُقسّم الناس إلى بقع: سوداء وبيضاء، موالين ومشبوهين، مدن مؤمنة وأخرى مرتدة، نعلم أننا لم نعرف يوماً معنى العدالة. هل كان النظام طائفياً؟ لا، كان أسوأ: طائفيته غطاؤها القومي، ووحشيته مغمّسة بالوطنية الكاذبة. وهل تغيّر الأمر اليوم؟ لا. لقد تغيّرت الأزياء والديكورات، وبقي المشهد نفسه: تابع ومتبوع، سيد وقطيع، صاحب مكرمة ومتلقٍ لفتات المائدة.

إن الدولة التي تُصنّف مواطنيها على أساس النَسَب واللقب والجهة، لا تُنجب شعباً، بل جمهوراً. جمهوراً من الزبائن: زبائن في مقاهي القرار، زبائن في أسواق الدم، زبائن في مكاتب التوظيف، زبائن حتى في طوابير الموت. هكذا صرنا جميعاً في طابور طويل، من الماضي إلى الحاضر، من جمهورية القتل إلى إمارات النهب، ننتظر لحظة المواطنة التي لا تأتي.

في دولة البعث كانت تُسجّل فيها أسماء الجنود للهلاك بجملة واحدة: “أرسلوا لنا أسوأ السيئين لغرض الإعدام”، دون محاكمة أو سؤال، نعرف أن الوطن لم يكن وطناً، بل مصيدة. كان هناك فائض في عدد الناس، لا في عدد الكراسي، وكان المطلوب دوماً هو التخلص من هذا “الزائد البشري”، عبر حرب أو إعدام أو جوع.

ولم تكن الزبائنية اختراعاً محلياً، بل طقساً عربياً خالصاً، يؤدى بخشوع في دواوين الملوك والسلاطين. المواطن ليس شريكاً، بل ضيفاً ثقيلاً في بيت السلطة. وحتى الضيافة تُقطع فجأة حين يطلب خبزاً أكثر أو سؤالاً واحداً عن العدل.

بعد الاحتلال، لم تُؤسس دولة، بل أُعيد بناء الزريبة. تم انتشال الحرس القديم من القمامة السياسية، وغُلفوا بعطر الديمقراطية، وأُضيف إليهم شيوخ العشائر وكهنة الطوائف، وسموا أنفسهم طبقة سياسية. ما كانوا إلا سدنة معبد النهب، ورجال مطافئ يطفئون جذوة التغيير بحجة الاستقرار. أما المواطن، فظل نزيلاً في وطنه، يحمل هوية لا تمنحه شيئاً سوى واجب الصمت.

اليوم، لم نعد زبائن في آيديولوجيا عسكرية، بل في يوتوبيا رأسمالية بملامح دينية وعشائرية. اختلفت الأغلفة، أما المضمون فواحد: المواطن الجيد هو الصامت الجيد، المنكسر، المحني، الذي يمشي على الرصيف ويشكر الله أن السقف لم يقع فوق رأسه.

وفي بلد استُبدلت فيه المدن التي كانت “لرفاق الثورة” بمدن للنخبة الملهمة، ووزعت الألقاب من جديد على أساس السلالة والولاء، لم يبق للمواطن سوى قشرة وطن يُراد له أن يصفق لها يومياً، أو يصمت. في هذا المناخ، الفقير كافر، والجائع حاقد، والساكت حكيم، والمتمرد خائن.

لكن، كما قال جورج أورويل، في اللحظة التي يُمنع فيها الناس من التغيير، يصبح الحق في التمرد هو أول حقوق الإنسان.لكن الأهم، تمرد من القلب إلى الوعي.

فقط حين يتحول الزبون إلى مواطن، والمُتفرج إلى فاعل، والتابع إلى سائل، يمكن أن نقول إن الوطن لم يعد فندقاً، وإن العراقي لم يعد رقماً، وإن التاريخ لم يعد يُكتب من الحانات والسجون والمنافي .

هل تظن أن لحظة كهذه ستأتي؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
أفتح الدردشة
اهلا بك في وكالة الراصد نيوز24
كيف يمكنني مساعدتك؟