من قال إن القبور تنام؟


كتب رياض الفرطوسي
القبور لا تنام… فقط نحن من نُطفئ النور ونمضي، نظنّ أن العظم الرازح في التراب قد صار رماداً بلا أثر، أن الأرواح التي هجرت أجسادها استسلمت للمحو، أن الشهداء الذين مضوا في أول القافلة، قد غابوا حقّاً. لكن القبور لا تنام، والشهداء لا يهدأون.
كلما مرت السنون، وكلما أُعلن عن خطاب سياسي جديد يُزيّن بتضحيات الأبطال، يُستدعى الشهيد من نومه القلق، لا ليتلقى التحية، بل ليشهد على الخيانة.
هامل الفرطوسي، استُشهد في 3 أيار 1980، ولم يكن رقماً في نشرة أخبار، ولا صورةً باهتة في تقرير رسمي. كان وجهاً من الجنوب، من طين الهور وندى المساء، من ضحكة جدّة، وحلم فتى لم تروه المدينة. مضى إلى الموت بخطى شاعر، لا يرتجف قلبه من رصاص، بل من احتمال أن يُخذل بعد موته.
يقول أحد رفاقه، ممن شاركوه الاعتقال في مديرية الأمن العامة، إن هامل كان يتهيأ للموت كما يتهيأ الفلاح لبذر بذوره في أول مواسم المطر. لم يكن خائفاً، بل كان واثقاً أن ما بعد الموت ليس ظلمة، بل ضوء يُضاء في ضمير الأحياء. لم يرتبك وهو يواجه جلّاديه، وكان جلبابه يخفي البردي – رمز الهور والجنوب والصمود – كأنما أراد أن يحمل معه آخر خيط من وطنه قبل الرحيل.
ورحل.
لكن القتلة لم يرتاحوا. طلبوا من والدي أن يُدفن سرّاً. كأنهم يخجلون من النور. كأن الرصاصة التي اخترقت رأسه ولسانه، لم تقتل صوته، بل أشعلت حريقاً سيستعر فينا إلى الأبد.
هل تسمعون يا سادة الخطب، يا أمراء الشعارات، يا تجّار الدماء؟
لقد مات الشهيد وفي قلبه حلم: أن يُوزّع النفط على العراقيين بالتساوي. حلم بسيط، لكنه كان كافياً ليرتعب الطغاة.
أما أنتم، فما الذي وزعتموه؟
لقد وزعتم المناصب، والأحقاد، والمنافي، والخراب.
تمر السنوات، ونتلو أسماء الشهداء كما لو أننا نُحصي خسائر معركة لم نخضها أصلًا.
تمر السنوات، وأنتم تكتبون خطباً عن الوطن، لكنكم لم تزوروا القبور، لم تسألوا الأمهات، لم تتأملوا وجوه الأرامل، لم تحصوا عدد الوجع في وجوه أطفال الشهداء.
ماذا قدمتم غير الصور الكبيرة، واللافتات، والندوات العقيمة؟
من الذي ينام حقّاً؟
هامل في قبره أم ضميركم؟
إن العراقي لا يبكي فقط، بل يرشّ الطين على وجهه حين يفقد عزيزاً، كما لو أن التراب هو صيغة المقاومة الوحيدة المتبقية.
هو الكائن الذي يشق ( زيجه من الطول للطول ) في مواسم الجنازات، يبحث عن عدالة لم تأتِ، عن وطن تأخر كثيراً.
لكن الجنازات القادمة، كما قلت، بلا مشيعين، بلا أكفان.
من يُشيّع الوطن حين يموت؟ من يحمل جسده الثقيل؟ من يحفر له قبراً؟
نحن لا نعيش، بل نراكم أحجاراً فوق أحجار. لا نتناسل، بل نتناسخ. المطلوب دائماً: الشبه، لا الفكرة. الأصل، لا التجديد. النمط، لا الانفجار.
ولهذا، لم نرتجف بعد حربين، ولم تهتز قناعة، ولم تتبدل فكرة.
نحن نخرج من الجحيم حاملين رماده، نخلطه بمائنا، ونشربه، ثم نتساءل: لماذا لا ننمو؟
أليس عاراً أن تمرّ 45 سنة على شهادته، ولا تزال نفس الوجوه تتصدر، بنفس العقل، بنفس الخطاب، بنفس الفشل؟
أليس خيانة أن تُترك الساحات لأولاد الصدفة، ويُسرق التاريخ من أفواه من صنعوه؟
هامل، الذي ترك اليابان وعاد ليواجه السلطة ، ماذا كان سيقول لو رأى كيف امتلأت الساحة؟
لقد قال: “والله لا نترك الساحة فارغة.”
فهل امتلأت بالضوء؟ أم بالغبار؟
أيها المارون على قبر هذا الفارس، لا توقظوه إن لم تحملوا وعداً.
لا تقرأوا الفاتحة ما لم تكن كلمتكم صدقاً، ودموعكم حقيقية، ووعودكم غير قابلة للتأجيل.
لا تحكوا باسم الشهداء ما لم تحملوا ما حملوه: وجع الحقيقة، وجنون الأمل، ونبل التضحية.
القتلة ماتوا أو سيموتون. لكن الخيانة لا تموت. تلد كل يوم في مكاتب السياسة، في أختام الوزارات، في كلمات القادة حين يذكرون الشهداء ولا يفعلون لأجلهم شيئاً.
ألا تخجلون؟
هامل مات واقفاً. فمتى تقفون أنتم؟
متى تصمتون عن الكلام الفارغ وتبدأون فعلًا صغيراً، بحجم دمعة أم شهيد؟
من قال إن القبور تنام؟
القبور تصحو كلما كذبتم، تنبض كلما نسيتم، تشتعل كلما لوّحتم بصور الأبطال وأنتم تسرقون ظلّهم.
هامل لم يمت. أنتم من مات.