آخر الأخبار
ألمقالات

بغداد تناديكم

بغداد تناديكم
كتب رياض الفرطوسي
حين تُضيء بغداد قناديلها من جديد، وتفتح أبوابها للضاد، لا تعود المدينة مجرد عاصمة سياسية، بل تصبح رمزاً، نداءً، واحتفالًا بحلم ظل طويلاً مؤجلاً: أن تعود الأمة إلى ذاتها. وفي السابع عشر من أيار المقبل، تستعيد بغداد دورها العربي بمشهدية لا تخلو من رمزية، وهي تستضيف القمة الرابعة والثلاثين لجامعة الدول العربية، كأنها تقول، بصوت الحضارة الذي لا يخفت: أنا بيتكم، تعالوا نلملم ما تبعثر.

تجيء القمة في توقيت ملتبس، كما لو أن التحديات تصر على اصطحابنا إلى الامتحان الأصعب: هل ما زال في الأمة العربية نفسٌ يُجمع؟ أم أن جسدها بات أضعف من أن يحتمل فكرة واحدة، أو خريطة واحدة، أو مستقبلًا مشتركاً؟

العراق، الذي ما انفك ينفض عن كتفيه رماد الحروب، قرر أن يلبس عباءة الكبار. لَمّ شتات البيت العربي ليس مهمة سهلة، ولا خياراً رفاهوياً، بل هو محاولة لإنقاذ الممكن من الحريق الكبير. من هنا، فإن استضافة بغداد للقمة ليست مجرد تنظيم حدث بروتوكولي، بل اختبار عميق لمشروع “عودة العراق” إلى مركز الفعل العربي.

كل شيء يشير إلى أن المدينة القديمة قد لبست حلّتها، وأتمّت استعداداتها، وأرسلت دعواتها بأيدٍ ثلاثية الرمزية: الخارجية، الداخلية، والتخطيط. ثلاث حقائب تُعبر عن المعنى المركب للقمة: دبلوماسية تدعو، أمن يحمي، ورؤية تخطط.

لكن، خلف الستار، تعصف الأسئلة: ماذا عن الانقسامات؟ عن غياب الرؤية الموحدة؟ عن التناقضات العقائدية التي تمزق الجسد العربي باسم الله والدم والمذهب؟ لا يمكن إنكار أن القمة تنعقد في مناخ فكري وسياسي تتنازع فيه المواقف أكثر مما تتقاطع فيه. حضور سوريا بوفد يرأسه وزير الخارجية، بدلاً من الرئيس أحمد الشرع، هو بحد ذاته مؤشر على دقة التوازنات، ومحاولة لتدوير الزوايا الحادة.

وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين كان صريحاً حين تحدث عن “الحد الأدنى من التنسيق”. وكأننا لم نعد نطمح إلى الوحدة، بل إلى الحد الأدنى من التناغم، إلى مساحة مشتركة لا تُفجرها الخلافات العقائدية أو الأجندات الإقليمية المتصارعة. ومع ذلك، فإن هذا “الحد الأدنى” قد يكون بداية لحوار جديد، عقلاني، لا يتكئ على الشعارات بل على الوقائع.

مشكلة القمم العربية ليست فقط في مضمونها، بل في نياتها. فحين تجتمع أنظمة ذات مرجعيات سياسية متباينة جذرياً، وأحياناً متناقضة، يصبح مفهوم “العروبة” محل تفاوض دائم، بل محل شك. لا يمكن بناء مشروع عربي في ظل أحزاب ترتبط بولاءات عابرة للدولة، أو بأفكار أيديولوجية تؤمن بـ”الخلافة” بديلاً عن الدولة الوطنية. كيف يمكن لعروبةٍ أن تنهض إن كانت بعض قواها تستظل بمرجعيات غير عربية ؟

إنه التحدي الكبير لقمة بغداد: أن تحوّل “التباين” إلى حوار، لا إلى انفجار. أن تنتج مشروعاً عربياً واقعياً، لا طوباوياً، يؤمن بالسيادة الوطنية كمنطلق للتكامل لا للتجزئة. مشروع اقتصادي بملامح إنسانية، كما اقترحه العراق عبر تأسيس صناديق لدعم الشعوب العربية المحتاجة، وعلى رأسها فلسطين.

القمة، وهي تُعقد على وقع زيارة مرتقبة للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى الخليج، تحمل بُعداً جيوسياسياً واضحاً. التوقيت ليس بريئاً. المنطقة تُعاد صياغتها ضمن خرائط القوى الدولية، وكل قمة عربية تُعقد دون رؤية استراتيجية ستكون مجرّد حدث شكلي، لا يُغير شيئاً في مسار التاريخ.

لكن، بغداد تُراهن على أكثر من الشكل. هي تريد أن تكون الجسر بين المتخاصمين، والملجأ الآمن للرؤى، والحاضنة التي تحفظ ذاكرة الأمة. إنها تلعب على أوتار الرمزية: عاصمة الرشيد، ومدينة الشهداء، وحاضنة التنوع. وهي بذلك تقول لكل العرب: “البيت بيتكم، فادخلوه بسلام.”

ليس من المبالغة أن نقول إن قمة بغداد هي قمة مفترق طرق. إمّا أن تفتح بوابة جديدة نحو التفاهم والتكامل، أو أن تكشف عمق الهوة التي تفصلنا عن بعضنا البعض. بغداد جاهزة، لكن هل العرب جاهزون؟

لا يكفي أن نجتمع، بل أن نعرف لماذا نجتمع. لا يكفي أن نردد خطاب التضامن، بل أن نؤسس له بنية تحتية من المصالح المشتركة، والتفاهمات الواقعية، والنوايا النظيفة. لأن التاريخ لا يرحم الشعوب التي تُهدر لحظاتها الحاسمة.

قد لا تخرج القمة بحلول سحرية. لكنها إن نجحت في إعادة الاعتراف ببغداد كعاصمة للقرار العربي، وبيتٍ يمكن أن يعود العرب إليه في لحظات الانكسار أو الأمل، فذلك يكفي. لأن الاعتراف هو أول الطريق، والبيت حين يُفتح من جديد لا يبقى وحيدًا طويلاً.

فيا عرب، أنصتوا إلى بغداد… إنها تناديكم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
أفتح الدردشة
اهلا بك في وكالة الراصد نيوز24
كيف يمكنني مساعدتك؟