أسرة آل الحكيم: جمر المرجعية ولهيب الشهادة في محراب العراق


رسول حسين
جذور النار المقدّسة.
حين تُذكر النجف، تُذكر عوالم العلم والمرجعية، ويُذكر معهما اسم محفور في ذاكرة التشيّع المعاصر: آل الحكيم، تلك الأسرة التي لم تكن مجرد سلسلة من العلماء، بل كانت شعلة ثورية، ومجسداً للعلم المقاوم، وسلسلة من الشهداء الذين جسّدوا وحدة الدم والفكر والفتوى في آن. في هذا المقال الصحفي العلمي، نسلّط الضوء على هذه العائلة الفريدة، موثّقين مسيرتها بالحقائق والمراجع، مستعرضين تضحياتها ومكانتها في ميدان الفقه والمقاومة، بقدر من التحليل المنهجي.
الفصل الأول: آل الحكيم – جذر فقهي عميق.
تنتمي أسرة آل الحكيم إلى قبيلة بني سعيد، وقد استقرت منذ أواخر القرن التاسع عشر في النجف الأشرف. كانت بداية صعودهم العلمي مع السيد أحمد الطباطبائي الحكيم (ت. 1917م)، الذي يُعد من كبار علماء النجف، وتتلمذ عليه علماء كبار كالسيد محمد رضا الغرّاوي والسيد محسن الحكيم.
وقد نُقل عن الشيخ آغا بزرك الطهراني في كتابه الذريعة إلى تصانيف الشيعة قوله عن أحمد الحكيم: “كان من رجال السند والبحث الدقيق، وله في الفقه طريقة رجالية نادرة” (الطهراني، الذريعة، ج1، ص433).
الفصل الثاني: المرجع الأكبر – السيد محسن الطباطبائي الحكيم.
وُلد السيد محسن الحكيم سنة 1889، وتتلمذ على يد كبار علماء عصره، مثل الآخوند الخراساني وشيخ الشريعة الأصفهاني. ويعد أول مرجع شيعي يُعلن صراحة رفضه للشيوعية، وقد أصدر فتواه الشهيرة سنة 1960: “الشيوعية كفرٌ وإلحاد”، والتي كانت لها آثار عميقة على المجتمع الشيعي في العراق والعالم.
وقد جاء في كتاب الدكتور كمال الحيدري المرجعية والحداثة أنّ: “السيد محسن الحكيم لم يكن فقط فقيهاً تقليدياً، بل كان يدير ملفاً سياسياً دقيقاً في ظل دولةٍ متقلبة” (الحيدري، المرجعية والحداثة، ص77).
من أبرز تلامذته: الإمام الخميني، والسيد محمد باقر الصدر، والسيد أبو القاسم الخوئي، وغيرهم.
الفصل الثالث: أسرة تمشي على الجمر – التضحية والسجون.
ابتُليت أسرة آل الحكيم في عهد البعثيين بأقسى صور القمع، إذ حوربت هذه الأسرة بسبب مواقفها المناهضة للسلطة البعثية. وقد سُجن معظم أبنائها، وقُتل الكثير منهم بطرق بشعة، ومنهم:
1. السيد محمد علي الحكيم، أُعدم سنة 1983 بتهمة الانتماء لحزب الدعوة.
2. السيد عبد الصاحب الحكيم، أُعدم بطريقة سرّية مع 6 من أبناء عمه.
3. السيد مهدي الحكيم، اغتيل في السودان سنة 1988 على يد مخابرات صدام.
وقد ذكرت موسوعة شهداء العراق أن “آل الحكيم خسروا ما لا يقل عن 70 شهيداً بين إعدام واغتيال وسجن وتعذيب، مما يجعلهم من أكثر العوائل الدينية تضرراً من نظام صدام” (موسوعة شهداء العراق، ج2، ص211).
الفصل الرابع: السيد محمد باقر الحكيم – شهيد المحراب.
وُلد السيد محمد باقر الحكيم سنة 1939، وتربى في ظل والده المرجع محسن الحكيم. درس على يد كبار العلماء، وكان من المؤسسين الأوائل لحزب الدعوة الإسلامية، قبل أن يؤسس “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق” في إيران سنة 1982، كجبهة مقاومة ضد صدام.
عرف بخطابه المقاوم والوحدوي، حيث حاول أن يجمع أطياف المعارضة العراقية. وقد اغتيل في 29 آب 2003 بتفجير ضخم استهدف مرقد الإمام علي (ع) في النجف، في حادثة دامية راح ضحيتها أكثر من 100 شهيد.
يقول د. حيدر الغرابي في كتابه فقه المقاومة: “كان السيد محمد باقر الحكيم يحاول تأسيس عقل شيعي سياسي جامع، يجمع بين فقه الدولة والمقاومة والهوية الوطنية” (الغرابي، فقه المقاومة، ص163).
الفصل الخامس: السيد عبد العزيز الحكيم – رجُل المرحلة الانتقالية.
خلف أخاه السيد محمد باقر، وتولى قيادة المجلس الأعلى، وكان له دور فاعل في مرحلة ما بعد 2003، إذ شارك في مجلس الحكم الانتقالي. ورغم الانتقادات التي وُجهت له، فإنّه حافظ على توجه المجلس كتيار إسلامي سياسي.
وقد وصفه السفير الأميركي بول بريمر في مذكراته بقوله: “كان عبد العزيز الحكيم رجلًا براغماتياً، يفهم التوازن بين واشنطن وطهران، ويحاول أن يلعب دور الوسيط بين التيارات المتطرفة والعقلانية” (بريمر، عامي في العراق، ص207).
الفصل السادس: السيد عمار الحكيم – بين التراث والتجديد.
تسلم السيد عمار الحكيم قيادة المجلس الأعلى بعد وفاة والده، ثم أسس تيار الحكمة الوطني في 2017، ليُعلن انشقاقه عن المجلس، داعياً إلى تشكيل تيار شبابي مدني محافظ.
وقد أشار الباحث الأميركي مايكل نايتس في دراسته Iraq’s Political Mosaic إلى أن “عمار الحكيم يمثل نموذج الجيل الثالث من القيادات الشيعية، التي تحاول التوفيق بين المرجعية والحداثة السياسية” (Knights, Iraq’s Political Mosaic, 2019).
الفصل السابع: آل الحكيم والمشروع الإسلامي – بين النظرية والتطبيق.
أسّس آل الحكيم، بفكرهم وحركتهم، مشروع الدولة الإسلامية المرجعية، دون أن يُغرقوا أنفسهم في المثالية، وقد حافظوا على خطّ فقهي ملتزم بعيداً عن العنف الطائفي. وكانوا دومًا حاضرين في مؤتمرات التقريب بين المذاهب، وسعوا إلى تطوير الفقه السياسي الشيعي بما يتناسب مع الدولة الحديثة.
وقد كتب الباحث الإيراني مهدي كروبي في مجلة الفكر الجديد: “كان آل الحكيم أول من طرح ضرورة أن يكون الفقيه السياسي منفتحاً على القوى الأخرى، لا منعزلاً عنها” (كروبي، الفكر الجديد، عدد 43، 2011، ص93).
الفصل الثامن: دماءٌ تسري في جذور النجف.
إن تضحيات آل الحكيم لم تكن رمزية فقط، بل كانت عملية. فقد دفن أكثر من 30 شهيدًا منهم في مقبرة وادي السلام. ولا تزال صورهم معلقة في مكاتب العلماء، وأسماؤهم تُذكر في أدعية المجاهدين. وقد روى السيد محمد رضا الحكيم في مذكراته: “لم يكن فينا بيت يخلو من شهيد، كأننا نُولد ونُقتل على حب الحسين” (محمد رضا الحكيم، مذكرات نجفية، ص221).
الفصل التاسع: آل الحكيم اليوم – استمرار أم انقطاع؟
رغم التغيرات السياسية، فإن الجيل الجديد من آل الحكيم لا يزال يملك حضوراً فقهيًا وسياسيًا، وإن بنسق مختلف. وقد برز بعضهم في الحوزات العلمية والدوائر الثقافية والإعلامية، وإن كانت الانقسامات السياسية قد أضعفت حضورهم المركزي.
ومع ذلك، يبقى تراثهم الأخلاقي والفقهي والمقاوم حيّاً في ضمير العراق والمنطقة.
اخيراً دماءٌ ومراجع – إرث لا يذبل.
لم تكن أسرة آل الحكيم طائفة من العلماء فقط، بل كانت نارًا تنضج على جمر الألم والمعرفة، وتنقش بالدم والفكر خريطة العراق الديني والسياسي. إنها قصة بيتٍ جمع المرجعية والشهادة، ومثّل مدرسة كاملة في بناء الإنسان والمجتمع.