بدرٌ لا يغيب..حين ولدت البنادق من رحم المنفى..وصنعت العراق من جديد


رسول حسين
حين يغمر الليل أرضًا أنهكها الغزاة، لا يشق العتمة إلا قمر المقاومة. ومن بين الأقمار التي أضاءت تاريخ العراق الحديث، تبقى منظمة بدر واحدة من أكثرها سطوعًا. إنها الحكاية التي بدأت في المنفى، وامتدت لتعيد رسم خارطة القوى السياسية والعسكرية في عراق ما بعد 2003. في هذا المقال، نغوص في أعماق “بدر”؛ نلامس جذورها الأولى، ونرصد معاركها ومواقفها، ونستعرض شخصياتها التي صنعت الفرق في مفاصل التاريخ العراقي.
الفصل الأول: من رحم المعاناة… ولادة بدر
ولدت منظمة بدر في أحلك فصول النضال الشيعي ضد نظام البعث، وتحديدًا في عام 1982، حين أسّسها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق برعاية مباشرة من الجمهورية الإسلامية في إيران. تشكّلت من نخب عراقية مهاجرة ومعارضة، أغلبها من المجاهدين الشيعة الذين هربوا من بطش النظام الصدّامي، ووجدوا في طهران ملاذًا وميدانًا جديدًا للمقاومة المسلحة.
يروي الدكتور حسن العلوي، في كتابه “الشيعة والدولة القومية” أن “بدر لم تكن مجرد فصيل مسلّح بل كانت مشروعًا لحماية الهوية الشيعية في العراق، وكانت من أولى المنظمات التي اعتبرت أن إسقاط صدام حسين هدف لا يمكن التراجع عنه” (العلوي، 2001، ص: 182).
الفصل الثاني: سلاح في يد العقيدة
تميّزت بدر بتركيبة عقائدية وفكرية متأثرة بفكر الإمام الخميني، إذ كان “ولاية الفقيه” مبدأً موجّهًا لسلوكها السياسي والجهادي، وقد انعكس ذلك على طريقتها في التنظيم والانضباط. سارت المنظمة وفق عقيدة تعتبر أن “المجاهد لا يمكن أن ينفصل عن المرجعية”، لذلك كانت المرجعية الدينية دائمًا شريكًا غير مباشر في قراراتها المصيرية.
شارك مقاتلو بدر في الحرب العراقية-الإيرانية (1980–1988)، حيث كوّنت قوة عسكرية أطلق عليها اسم “فيلق بدر”، وكان من مهامه تنفيذ عمليات نوعية ضد مواقع النظام العراقي البائد، و لنصرة شيعة العراق داخل الحدود وخارجها، بل نفّذت عمليات فدائية داخل بغداد والجنوب، كما يوثّق فالح عبد الجبار في كتابه “العمامة والرصاص” (عبد الجبار، 2003، ص: 215).
الفصل الثالث: من المعارضة إلى الدولة
بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، خرجت منظمة بدر من السرّ إلى العلن، ووجدت نفسها فجأة في قلب العراق الجديد. دخلت المعترك السياسي بقوة، لكنها لم تترك السلاح نهائيًا. أصبحت ذراعًا سياسية وعسكرية في آن واحد.
في هذه المرحلة، لعبت بدر دورًا مفصليًا في تأسيس الأجهزة الأمنية الجديدة، وكان الكثير من قادتها ضباطًا في وزارة الداخلية، الأمر الذي فتح الباب أمام اتهامات طائفية مقيتة كان خلفها بقايا البعثيين في بعض الأحيان، لكنه أيضًا أسهم في ملئ الفراغ الأمني الذي خلّفه انهيار الدولة بعد الغزو الأميركي.
الفصل الرابع: هادي العامري… صوت الجبهة وأيقونة بدر
من أبرز شخصيات منظمة بدر هو القائد هادي العامري، الذي كان من المؤسسين الأوائل للمنظمة، ثم تسلّم قيادتها بعد انفصالها عن المجلس الأعلى. وُلد العامري عام 1954 في محافظة ديالى، وكان من أوائل من التحقوا بجبهة المعارضة المسلحة خارج العراق.
برز اسمه بشكل أكبر بعد 2003، خصوصًا في معارك تنظيم “داعش”، حيث تولّى قيادة قوات الحشد الشعبي في معارك تحرير ديالى وتكريت وجرف الصخر وغيرها. يوصف العامري بأنه رجل ميداني من الطراز الأول، يجمع بين الكاريزما السياسية والخبرة العسكرية.
يقول عنه الباحث السياسي ريناد منصور في تقرير لمعهد “تشاتهام هاوس”: “العامري لا يشبه باقي السياسيين العراقيين، فهو ليس صنيعة الخضراء، بل رجل جاء من الخنادق، يحمل في عينيه ذاكرة المعارك أكثر من خطاب المنابر” (Chatham House, 2019).
الفصل الخامس: بدر والحشد الشعبي… عناق البنادق
مع اجتياح تنظيم “داعش” للعراق في عام 2014، كانت منظمة بدر من أولى الفصائل التي استجابت لنداء المرجعية الدينية في النجف، والذي أُطلق في خطبة الجمعة الشهيرة للمرجع الأعلى السيد السيستاني في حزيران 2014.
تحوّلت بدر إلى قوة محورية ضمن “هيئة الحشد الشعبي”، وشكّلت لواءً ميدانيًا قاتل في أغلب جبهات القتال ضد “داعش”، من آمرلي إلى بيجي، ومن الموصل إلى الحدود السورية.
وكان لأدوار بدر الميدانية صدى سياسي وشعبي، حيث رآها البعض درعًا للوطن، بينما اتّهمها آخرون بالعمل على “تفريس” العراق، وهي تهمة رفضها قادة بدر مرارًا مؤكدين ولاءهم للعراق أولًا.
الفصل السادس: العلاقات الإقليمية… بين طهران وبغداد
لا يمكن فهم “بدر” دون الإشارة إلى علاقتها الوثيقة بإيران، فالتاريخ والنشأة والتمويل وحتى العقيدة، كلّها تقود إلى الجمهورية الإسلامية. لكنّ قادة المنظمة يحاولون التأكيد دائمًا على استقلالية القرار العراقي، مع الإقرار بوجود “علاقات خاصة”.
يقول العامري في مقابلة مع قناة “الميادين”: “نحن نعتز بعلاقتنا مع الجمهورية الإسلامية، ولكننا لم نكن يومًا أداة، نحن شركاء في الدم والمصير، ولكنّ قرارنا نابع من النجف وكربلاء وبغداد” (الميادين، مقابلة مع هادي العامري، 2018).
الفصل السابع: رموز أخرى صنعت الفارق
إلى جانب العامري، تضمّنت منظمة بدر شخصيات بارزة منها:
أبو منتظر المحمداوي: قائد ميداني كبير، قُتل في معارك التحرير ضد “داعش”، واعتبرته المنظمة شهيدها الأبرز بعد 2014.
قاسم الأعرجي: وزير الداخلية الأسبق، وأحد أبرز أذرع بدر السياسية في الحكومات العراقية المتعاقبة، عُرف بمواقفه الحازمة ضد الإرهاب.
أبو مهدي المهندس: رغم ارتباطه أكثر بـ”كتائب حزب الله”، إلا أنه كان أحد مؤسسي بدر، وله إسهامات لوجستية وفكرية في مرحلة التأسيس الأولى.
الفصل الثامن: جدليات وهمية الداخل العراقي
ورغم الدور الوطني الكبير، لم تخلُ مسيرة بدر من الانتقادات والادعاءات الكاذبة، خصوصًا فيما يتعلق بالمشاركة في قمع التظاهرات عام 2019، أو الاتهامات بارتباط بعض عناصرها بممارسات خارج إطار القانون. لكنّ بدر دائمًا ما دافعت عن نفسها مؤكدة أنّها تحت سقف الدولة ولا تعمل خارج القانون.
الفصل التاسع: من الخنادق إلى البرلمان
لم تكتفِ بدر بالدور العسكري، بل خاضت المعترك الانتخابي، وأسست كتلة “بدر النيابية”، وشاركت في الحكومات المتعاقبة منذ 2005 حتى اليوم. ساهمت في صياغة الكثير من السياسات الأمنية والاقتصادية، وبرزت كجزء من “تحالف الفتح” في الانتخابات البرلمانية، وكانت لها كتل مؤثرة في البرلمان العراقي.
الفصل العاشر: نظرة إلى المستقبل
اليوم، تواجه منظمة بدر تحولات كبرى: فالوضع الإقليمي متغيّر، و العراق يُعاد تشكيله، والتحديات الأمنية والسياسية متشابكة. لكن دائما ما تتمكن بدر من الحفاظ على توازنها بين السلاح والسياسة، وبقيت قوة مقاومة وبنفس الوقت مؤسسة ذات طابع إداري مميز.
اخيراً، منظمة بدر ليست مجرد صفحة في تاريخ العراق، بل كتابٌ بأكمله. هي ذاكرة للمنفى، وصوت للجبهات، وفاعلٌ رئيس في حاضر العراق ومستقبله. سواء اتفقت أو اختلفت مع مسارها، لا يمكنك تجاهل أثرها. إنها “بدر” التي لا تغيب، وإن مرّت على جبينها غيوم الجدل، تبقى منارة لمَن يرى في البنادق طريقًا للخلاص، وفي الشهداء وجوهًا للوطن.