المصلح


🔹️ *المصلح* 🔹️
■ *الشيخ محمد الربيعي*
جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام )
لقد عاش الإمام الصادق عليه السلام عصره وقضاياه ووضع نصب عينيه أن يواجه مشكلاته وتحدّياته باتّجاه حفظ الشريعة من الأخطار المحدقة بها…
وإن الإمام الصادق عليه السلام لم يغمض عينه ولم يصمّ أذنيه عن الوقائع المستجدة ، بل انفتح عليها وعرفها جيّداً ، ليتمكّن من مواجهتها ، انطلاقاً من العقيدة الإسلاميّة وإلّا فكيف نفهم هذه القدرة على مواجهة كافة الخصوم بما يلزم السكوت والاندحار.
إنّ الامام الصادق كان على علم دقيق بالفلسفة ومناهج الفلاسفة وعلى علم بمواضع التهافت عندهم ، وإنّه كان مرجع عصره في ردّ الشبهات وقد كان بهذا جديراً وذلك لانصرافه المطلق إلى العلم ولأنّه كان ذا أفق واسع في المعرفة لم يتسن لغيره من علماء عصره ، فقد كانوا محدّثين أو فقهاء أو علماء كلام أو علماء في الكون وكان هو كلّ ذلك .
و بهذا العلم وبهذه المعرفة استطاع الإمام أن يواجه الأطروحات الغربية وتحدياتها الموجهة ضد الإسلام ، ومن شاء التفاصيل فهو يجدها في مظانها.
وإنّ الإمام الصادق عليه السلام لم يكتف بالردّ على الخصوم وتهفيت حججهم. بل سعى لتعليم وتدريب أعداد كبيرة مهيّأة للقيام بمثل ما يقوم به في أمكنة أخرى وفي أزمنة أخرى. لتظلّ إمكانات المواجهة متاحة حفاظاً على المسلمين من الخداع والتضليل … فلنلاحظ هنا ما يعطيه من دور للتعليم وللإعلام في العمل الإسلامي.
وإنّ الإمام الصادق تعامل مع الظروف السياسيّة لعصره بأقصى ما يمكن من الحكمة وتقدير ما نسمّيه في اللغة السياسيّة الحديثة موازين القوى بصورة دقيقة لكي لا يتحوّل الخروج إلى فتنة تتصبب لها دماء المسلمين ولا تزيد الظالم إلّا ظلماً وانتقاماً.
على أنّ ذلك لم يكن يعني السكوت ، بل مجاهدة الظالم ولكن بأسلوب يقوم على الإسلام عقائد وعبادات ومعاملات وسياسيات ، وانتظار التغيير في موازين القوى ، والسهر على الأتباع ومساعدتهم لكي لا يقعوا في فخاخ الظالمين بفعل الحاجة إلى اللقمة أو بعض المكاسب.
محل الشاهد :
ونحن لا نبالغ إذا قلنا إن الإمام الصادق كان برأي الكثير من المستشرقين إمام الموحدين وإنه لعب دوراً عظيماً في تقدم علوم الفقه والكلام إضافة إلى علوم ومعارف أخرى كالعلوم الدنيوية المختلفة التي كان يبذلها لطالبيها ضمن حلقات دراسية في بستانه الجميل في المدينة حيث كان له – كما يقول المستشرق رونالدسن – مدرسة فكرية عظيمة شبه سقراطية .
ولذلك فليس من المستغرب أن يكون الإمام الصادق قبلة المتعلمين والباحثين، وأن يكون أيضاً المرجع الإسلامي العام في عصره إذ إن أقواله وأحكامه حجة وكذلك الحال بالنسبة إلى أعماله، ومن هنا يمكننا أن نتصور حقيقة منزلته إذ تنبأ الرسول الأعظم بقدومه من صلب الإمام الحسين (عليه السلام) فقال عنه واصفاً إياه: (جعفر صادق في قوله وفعله. الطاعن عليه كالطاعن عليَّ، والراد عليه كالراد عليَّ) .
ولذلك فالإمام الصادق الذي أعطى رسالة النبي محمد زخماً قوياً وَدَماً جديداً يسري في عروقها وشرايينها التي أتعبتها الخلافة الأموية لم يكن إماماً لطائفة محدّدة دون طائفة، ولم يكن إماماً قطّ لمذهب دون مذهب آخر، بل كان إماماً وسيّداً لكل المسلمين على حدٍّ سواء، ويكفي أن نقول إن أئمة المذاهب الأربعة، وبشكل خاص أبو حنيفة ومالك بن أنس، كانوا من تلامذته.
ومن الجدير ذكره أن الهيكلية الفكرية والمنظومة العقائدية عند الإمام الصادق لاقت عظيم الأثر عند الكثيرين من العلماء والمفكرين والعظماء في العالم الغربي، وقد رأى العديد منهم أنه قد قدّم للبشرية جمعاء من العلوم الدينية والدنيوية الشيء الكثير والذي يعجز القلم واللسان عن وصفه، ففي عام 1968 في مركز الدراسات العليا التابع لجامعة (ستراسبورغ) اجتمع لفيفٌ من العلماء والمفكرين الغربيين ليقولوا للعالم ما قدّمته الطائفة الشيعية للبشرية على امتداد أكثر من ألف وأربعمئة عام، وخاصة تلك المآثر والمنجزات الفكرية (المادية والروحية) التي قدّمتها عبقرية الصادق للعالم بشقّيه الإسلامي الشرقي والمسيحي الغربي.
وقد أجمعت أبحاث ذلك المؤتمر على أن الإمام الصادق كان عبقريّ عصره دون منازع، وقد أكدّ أولئك الباحثون والمفكّرون مثل البروفيسور (كلود كاهن) أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة ستراسبورغ، والبروفيسور الإيطالي (أنريكو شيروللي) صاحب كتاب (علم الاجتماع الإسلامي)، والبروفيسور الفرنسي (هنري كوربان) تلميذ المستشرق الشهير (لويس ماسينيون)، والدكتور (سيد حسن نصر)، والبروفيسور (هنري ماسِهْ) مدير قسم الدراسات الشرقية في جامعة استراسبورغ وعضو المجمع العلمي بدمشق، بالإضافة إلى عدد آخر من الدارسين والباحثين المتخصّصين بدراسة وتحليل الفكر والثقافات الشرقية،لقد أكَّدَ كل أولئك على أن للإمام الصادق صَولات وجولات في ميادين العلوم الفيزيائية بكافة مجالاتها.
وقد أثبت أولئك العلماء المؤتمرون أن هناك مقولات وأفكارا للصادق ذات علاقة وثيقة بفهم طبيعة (الزمان) وعلاقته بمفهوم (المكان) ونسبيّة هذين المفهومين المعقّدين، هذا بالإضافة إلى تحدّثه عن الضوء وعن أشعة النجوم التي تصل إلى كوكبنا من تلك المسافات الشاسعة التي تفصلها عنّا.
وقد تحدّث أحد أولئك الباحثين عن مفهوم الزمان في فكره، فقال موضّحاً تلك الفترة: (ففي رأي الصادق أن الزمان غير موجود بذاته، ولكنه يكتسب واقعيَّته وأثره من شعورنا وإحساسنا، كما أن الزمان هو حَدٌُّ فاصل بين واقعتين أو وحدتين، وهو يرى أن الليل والنهار ليسا من أسباب تشخيص الزمان ومعرفته، وإنما هما حقيقتان مستقلّتان عن الزمان، يضاف إلى ذلك أن الليل والنهار ليس لهما طول ثابت فالليل يقصر في الصيف ويطول في الشتاء، والنهار على عكسه، وهما يتعادلان أحياناً
وهنا أريد أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى مسألة مهمة لا يمكننا أن نتجاوزها أو أن نتجاهلها، وَهي أنَّ العلماء والمفكرين الغربيين استطاعوا أن يسبقوا العديد من المفكرين العرب في تحليل وتفكيك رموز الملاحظات العلمية التي نطق بها الإمام في زمن لم يكن ليسمح له أن يصرّح بها تصريحاً أمام أُناسٍ لم تكن عقولهم مهيّأةٌ بَعدْ لتقبُّل وتفهُّم تلك الحقائق العلمية الثابتة.
وعلى سبيل المثال، فقد استطاع العديد من العلماء والمفكرين الأوروبيين أن يُثبتوا من خلال دراساتهم وتحليلاتهم أن له نظرية علمية مهمة أخرى، هي نظرية (انقباض العالَم وامتداده) فهو يقول إن العوالم الموجودة لا تبقى على حالٍ دائمٍ من الأحوال، فهي تتّسع تارة وتنقبض أخرى….وصفوة القول إنّ عِلميّ الفيزياء والفلك المعاصرين يؤكّدان نظرية الإمام الصادق (ع) المتعلقة بانقباض العوالم واتسّاعها (تمدّدها) .
من الصعب جداً أن نحيط من خلال هذه الوريقات القليلة بكل أفكار ونظريات الإمام الصادق (ع) على المستويين المادي والروحي.
فهو الإمام الذي مازجت روحُ القرآن الكريم روحَه الشريفة، وهو الإمام الذي ورث علوم الرسول المصطفى (ص) وعلوم الإمام المرتضى (ع) حتى أنه قد أُثِرَ عنه قوله (ع): (لا ينبغي لمن لم يكن عالماً أن يُعدَّ سعيداً)
اللهم احفظ الاسلام و المسلمين
اللهم احفظ العراق و شعبه