وجوه الحرب


وجوه الحرب
كتب رياض الفرطوسي
الحرب لا تبدأ حين تُقصف المدن، بل حين تُخدّر العقول.
حين تتحول الحقيقة إلى بضاعة، وتُصاغ اللغة كسلاح، وتُباع الأخلاق في المزادات الدولية. الحرب ليست فقط رصاصاً وصواريخ؛ إنها نظام كامل ينهار في الخفاء قبل أن ينهار في العلن.
أفظع ما في الحروب ليس الدمار، بل الاستعداد له، الارتعاش الجماعي قبل الانفجار، ذاك الجمود المريب الذي يسكن النفوس، والأسواق، والمسرح، وحتى القصيدة. قبل الحرب، تختل الحياة من جذورها: يتوقف المستقبل عن التقدم، يُختطف الأمل، ويُستبدل الانتظار بشعور مقيت اسمه “الاحتمال”.
من الغرف المؤمّنة، تنطلق أبواق الكذب. محللون، ساسة، إعلاميون، يتحدثون عن “ضرورات الحرب”، و“مصالح الشعوب”، بينما الموتى لا يحتاجون هذا النوع من الخطاب. لا أحد يتحدث باسمهم.
من لم يعرف الحرب، يظنها حملة عسكرية؛ أما من عاشها، فيدرك أنها تجتث الروح، وتفرغ اللغة من معانيها. في زمن الحرب، لا تعود الكلمات كما كانت، ولا تعود العواطف قادرة على الطيران. يتغير المسرح، يُجرف الشعر، ويُصبح الوطن مجرد خبر عاجل.
لقد صدق جورج أورويل حين قال إن كل دعاية الحرب تصدر من أماكن لا يصلها الرصاص. هؤلاء لا يسمعون صوت الدمار بل صدى مصالحهم.
أما الشعوب، فهي تدفع الثمن دائماً، ليس فقط بالدم، بل بالذاكرة أيضاً. تموت المدن مرتين: مرة بالقصف، ومرة بالنسيان.
الحرب ليست دائماً قرار طاغية، بل سلسلة طويلة من التواطؤات الصامتة، والأكاذيب الجميلة، والأخطاء التي تم تأليهها على مدى قرون. كل أمة قاتلت في سبيل “الحقيقة” أدركت متأخرة أن الحقيقة كانت تُصنع في مكان آخر.
أما الغرب – الذي روّج لنفسه كحامل شعلة “التحضر” – فقد كشف عن وجهه الحقيقي. لم تعد البربرية تهجم بخيولها او دباباتها او طائراتها ، بل تأتي مرتدية بدلات رسمية، تلوّح بدساتير “حقوق الإنسان” بينما تمارس أكثر أشكال الوحشية سادية وتنميقاً.
في زمن الاستعمار الحديث، لم تعد الحاجة إلى احتلال الأرض، بل احتلال السرد. الفكرة. اللغة.
حرب اليوم، لا تشبه حروب الأمس فقط في أدواتها، بل تتفوق في احتراف القتل مع المتعة. لم تعد البربرية قديمة، بل متطورة، ذات برمجيات عالية الدقة.
ولم يعد الجندي هو القاتل الوحيد، بل كل من صمت، وزيّف، وشارك في بثّ رواية مغشوشة.
ولذا فإن مسؤولية المثقف لا تُقاس بعدد المقالات، بل بقدرته على إشعال بصيرة وسط عتمة.
أن نكتب ليس ترفاً، بل مقاومة. أن نحلم، ليس هروباً، بل إعلان وجود.
أن نفضح، ليس كراهية، بل وفاء للضحايا الذين لا صوت لهم.
قد تصمت البنادق، لكن الحرب لا تنتهي إلا حين تُعاد كتابة التاريخ من ضمير الضحية لا من منابر المنتصر.