آخر الأخبار
ألمقالات

خصام النذل

خصام النذل

كتب رياض الفرطوسي

في لحظة هدوء من زمنٍ ضاجٍّ بالضجيج، اجتمع حكيمٌ بقومه، وسألهم:
ما الشيء الثقيل؟ وما الشيء الخفيف؟
انطلقت الإجابات كما تُطلق السهام بلا هدف: الحديد ثقيل، والقطن خفيف.
ابتسم الحكيم وقال: خذوا من الوقت نهاراً، وعودوا لي بميزان العقل لا بميزان السوق.

وفي زاويةٍ من زوايا القبيلة، عاد أحدهم إلى أمه، امرأة خبِرت الحياة لا بالكتب بل بالوجع، وسألها.
فأجابت دون تردد:
الثقيل يا بنيّ هو خصام النذل.
والخفيف، خلافك مع الكريم النبيل.
لأن النبيل إذا خاصمك، خاصمك بفروسية. يجرحك بسيفه لكنه لا يطعن من الخلف. يواجهك بوضوح، لا يختبئ خلف قناع.
أما النذل، فإذا اختلف معك، استحضر كل أساليب القبح، وتسلح بالشتيمة والغدر والخسة.
يُخرج من جُعبته أسوأ ما في الإنسان من وضاعة.

وهنا تكمن مأساة هذا الزمن:
أن الوضيع، إن وصل إلى نفوذ أو مال، لم يتعلم كيف يسير مستقيماً.
بل يتغطرس.
وإذا ما خاصم، مزق.
وإذا ما غضب، افترس.

تأمل كيف أصبحنا نعيش في زمن صار فيه بعض المنتفعين، ممن جاءت بهم المصادفات العرجاء، يتوهمون أن الكرسي وطن، والسلطة ميراث.
ينظرون إلى الناس من علٍ، يحيطهم المُطبّلون، يرقصون على موسيقى المصالح، ويحسبون أن العظمة في الصوت المرتفع، لا في الموقف الهادئ الواثق.

ويا للغرابة،
كم تساءلت: من أين تأتي ثقة هؤلاء؟
هؤلاء الذين يعيشون على المديح، ويتسولون الإعجاب، ويتفاخرون بصدى هشّ لأصواتهم؟
بينما ترى الحكيمَ قلقاً، يفكر ألف مرة قبل أن يحكم.
النبيلَ يعتذر إذا أخطأ، ويقلق إن ظلم.
أما السطحي، فيتماهى مع صورته في المرآة، ويحسب أن انحناءات الناس له دليل مكانته.

تلك مفارقة قديمة وصفها برتراند راسل حين قال:
“مشكلة هذا العالم أن الأغبياء واثقون بأنفسهم دائماً، أما الحكماء فتمتلئ قلوبهم بالشكوك.”

وإن أردت أن تفهم أكثر، فافتح كتب التاريخ لا لتتصفح الحروب، بل لتقرأ الوجوه.
واقرأ العراق…
بل اقرأ العراق من داخل جراحه، لا من على أطرافه.

هادي العلوي، بصيرٌ من زمنٍ آخر، رأى ما لا يُرى في المرايا العادية، فقال عن صدام حسين:
“إنه ظاهرة عراقية تاريخية على مر العصور.”
ليس لأنه استثنائي، بل لأنه مرآة.
يقف خلف باب اللاوعي العراقي.
يظهر حين يغضب ابن القبيلة، أو حين يُستفَز الجار، أو حين يصل أحدهم إلى سلطة.
كأنه شبحٌ موروث، يلبس الوجوه حين تتصدع، ويتكلم بألسنة الآخرين حين يصمت العقل.

لم يمت صدام، لأنه لم يُدفن في الوعي.
بل تسلل إلى مؤسساتنا، إلى إداراتنا، إلى مفرداتنا.
وربما صار نموذجاً سرياً يُقلّده الجهلاء دون وعي.
تماماً كما درّب صدام معارضيه، فصاروا نسخةً أخرى منه، بلا مشروع، مليئين بالضغينة، يعيشون على لعنته دون أن يمتلكوا رؤية لتجاوزها.

إن الانتقام الحقيقي لا يكون بلعنة مضادة.
بل ببناء دولة عادلة،
دولة لا تحتاج إلى الصوت العالي لتثبت هيبتها،
ولا إلى السجون لتفرض سلطتها،
ولا إلى القمع لتضمن ولاء شعبها.

ما لم تُقطع جذور الوضاعة من العقل السياسي،
وما لم نكفّ عن تدريب المعارضين على أخلاق الطغاة،
سيبقى صدام — كمعنى، لا كشخص — حياً بيننا،
يظهر في الصغير إذا غضب،
وفي المدير إذا استُفز،
وفي السياسي إذا اختلف مع أحد.

فيا من تختلفون،
تمهلوا…
تذكروا أن الفرق بين الإنسان والنذل ليس في لياقته، بل في خلقه حين يخاصم.
وأن الخصومة النبيلة لا تترك جروحاً،
أما خصومة السفهاء… فتجعل من الخلاف مقبرةً للكرامة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى