ولادة اقتصاد جديد


كتب رياض الفرطوسي
في لحظة فارقة من تاريخه الاقتصادي، يستعد العراق لكتابة سطر جديد لا يبدأ من باطن الأرض، بل من نبض العقول. بلد لطالما عُرف بثرواته المدفونة، يُدرك اليوم أن المستقبل لا يُنقب عنه بالمجارف، بل يُرسم بالأفكار. وإن كانت السنوات الماضية مرآة لحاضرٍ مضطرب، فإن ما يلوح في الأفق لا يبدو إلا إعلان ولادة: ولادة اقتصاد جديد.
من تحت رماد اقتصاد ريعي أنهكته السنوات، تنبعث إرادة التحوّل، مدفوعة بإيمان أن النفط، مهما بلغت وفرة عائداته، لا يمكن أن يكون أساساً لنهضة متينة. هذا التحول لا يأتي من فراغ، بل من حاجة ملحة إلى الانعتاق من رتابة التبعية إلى استقلالية المبادرة. ومن هنا، وُلد “صندوق العراق للتنمية” في عام 2023، كخطوة غير مسبوقة تهدف إلى زعزعة الركود الذي صنعته عقود من الاعتماد على الدولة كمصدر رزق وحيد.
ليس هذا الصندوق مجرد وعاء مالي، بل هو بوابة ذهنية نحو اقتصاد جديد، اقتصاد يتنفس من رئة الإبداع، وينبض من قلب التحول الرقمي. فمثلما فعلت النرويج حين أسست “صندوق الأجيال” ووجهت عائدات نفطها نحو استثمارات خارجية تحفظ الرفاه لأبنائها، يسعى العراق اليوم إلى محاكاة هذه التجربة بخصوصية عراقية لا تكتفي بتكديس العوائد، بل بتوجيهها نحو مشاريع تنموية حيوية تعيد بناء الإنسان والبيئة معاً.
وقد عبّر المستشار الاقتصادي لشؤون الاستثمار محمد النجار عن هذا التوجه الجديد بلغة بليغة حين وصفه بـ”الاقتصاد الشاب”. لم تكن العبارة مجازاً أدبياً بل تشخيصاً دقيقاً لحالة اقتصادية تتجاوز النماذج الكلاسيكية. النجار يرى أن العراق، وهو يقف على عتبة جديدة، مطالب بأن يستثمر في عقوله قبل أن يُفكر في موارده. فالتحول الرقمي وريادة الأعمال لم يعودا رفاهية أو ترفاً فكرياً، بل شرطاً للوجود في عالم يتغير بسرعة الضوء.
الاقتصاد الشاب، كما يراه النجار، ليس اقتصاداً يحفظ الماضي، بل يحلل المستقبل. ليس اقتصاداً يمشي على درب المجاملات، بل يبني على أساس الكفاءة. ومن هنا، فإن استثمار العقول الشابة لم يعد خياراً، بل ضرورة وجودية. هو اقتصاد يتموضع في المستقبل، لكنه يولد الآن.
ولأن النية وحدها لا تصنع اقتصاداً، جاءت الخطوات العملية لتؤكد أن صندوق العراق للتنمية لن يبقى على الورق. مشروع “إيدوبا” لتأجير المدارس للحكومة العراقية هو أول الغيث، يجمع بين الاستثمار في الإنسان وبين البناء المستدام، ويُجسد فكرة أن التعليم ليس خدمة فقط، بل أيضاً فرصة اقتصادية طويلة الأمد.
كما أن فتح الصندوق أمام القطاع الخاص، وسعيه لتفعيل الأموال المخزنة في البيوت، يعبّر عن فهم عميق لاقتصاد الظل العراقي، الذي لا يُستهان به حجماً ولا تأثيراً. إنها محاولة لتحريك الكتلة النقدية الراكدة، وضخها في مشاريع حقيقية تخلق فرص العمل وتقلل من مركزية الدولة.
وفي الوقت ذاته، بدأت المصارف العراقية تسير نحو فضاءات جديدة. مصرف التنمية الدولي، على سبيل المثال، لا ينظر إلى التحديات باعتبارها حواجز، بل كبوابات عبور نحو الريادة. هو نموذج لمصرف لا يكتفي بتقديم الخدمات، بل يسعى إلى تصدير الابتكار المصرفي، مُعززاً الشمول المالي، ومتوسعاً نحو أسواق إقليمية، كالإمارات، متسلحاً بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة.
المؤتمر الاقتصادي الأخير كشف عن خارطة مشاريع طموحة، منها مشروع النهروان لمعالجة النفايات وتوليد الطاقة الكهربائية بتقنية الحرق التام الشبكي – وهي تجربة تُعد الأولى من نوعها في العراق والمنطقة. مشروع يعالج أكثر من تسعة آلاف طن نفايات يومياً، ويحوّل ما كان يُحرق عشوائياً إلى طاقة نظيفة.
وفي الضفة الأخرى من المشهد، تستمر تجربة شركة “غاز البصرة” كشهادة حيّة على نجاح الشراكة بين القطاعين العام والخاص. انطلقت التجربة في عام 2013، حين قررت الحكومة، بالشراكة مع شركتي “شل” و”ميتسوبيشي”، استثمار الغاز المصاحب بدلًا من إحراقه. كانت البداية صعبة، لكن اليوم، وبعد أكثر من عشر سنوات، تُنتج الشركة ما يعادل أربعة إلى خمسة أضعاف إنتاجها الأولي، مما جعل العراق يتحول من مستورد للغاز المسال إلى مصدر له، وفتح باباً جديداً لتعدد الإيرادات خارج إطار النفط الخام.
والأجمل، أن هذه المشاريع لا تقتصر على استغلال الموارد، بل تمتد إلى تحسين البيئة وخلق فرص عمل نوعية. شركة “نفط الوسط” أيضاً، انطلقت في تجربة نوعية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة الحقول النفطية. مشروع مع شركة صينية يتيح مراقبة مفاصل الإنتاج في ثماني محافظات من مركز واحد في بغداد، ما يُظهر تحولًا حقيقياً نحو إدارة ذكية للموارد.
إن ما يجري في العراق ليس مجرد تكيّف مع متغيرات السوق، بل هو تخطيط لمواجهة حقيقية مع المستقبل. فمع تقلبات أسعار النفط، بات الغاز الطبيعي يتصدر المشهد من جديد، لا فقط كمصدر بديل، بل كمحور للاستثمار والتنمية. المشاريع المطروحة في الجولات الاستثمارية الأخيرة تركز على الحقول الغازية، وهي دعوة مفتوحة للشركات العالمية للمشاركة في بناء مستقبل أكثر نظافة وكفاءة.
قمة العراق للأعمال – التي يمكن تسميتها بـ”دافوس العراق” – جمعت تحت سقف واحد شركات عملاقة، ومسؤولين حكوميين، وخبراء استراتيجيين، لتشكّل منصة للتخطيط والتكامل. وقد برزت خلالها مفاهيم جديدة، كان من بينها ما طرحه الدكتور علي الوجيه، حين قال: “الدول لا تُقاس بما تمتلك من موارد، بل بما تتقنه من إدارة لهذه الموارد”. عبارة تحولت إلى محور نقاش، وأثارت حوارات عميقة حول الحاجة لتكامل قطاعات الطاقة والاتصالات، وربط مراكز البيانات بمصادر وقود مستدامة، كغاز الشعلة.
وفي حديث مفتوح، أشار أحد المسؤولين التنفيذيين إلى أن العراق يمتلك قدرة إنتاجية أكبر مما ينتجه حالياً، لكن التزامه بمنظمة أوبك يجبره على التوازن. لذا، فإن التركيز على استثمار الغاز المحترق، واستغلال الحقول غير المكتشفة بعد، أصبح أولوية وطنية، تسير بها الوزارات والشركات بتناغم لافت.
يبدو أن العراق لا يريد فقط التعافي، بل يرغب في التحليق. يتخلى تدريجياً عن دور المتلقي، ليتحول إلى صانع مبادرة. من اقتصاد ريع إلى اقتصاد عقل. من موارد تهدر إلى فرص تُستثمر. إنه اقتصاد جديد يولد على أنقاض القديم، يُبنى لا على ما نملكه، بل على ما نحلم به، وما نحن مستعدون أن نبذله في سبيل تحقيقه.