جنون السلطة وسلطة الجنون


كتب رياض الفرطوسي
في دهاليز السياسة، حيث تُصاغ القرارات وتُحاك المؤامرات، يقف الزعماء على خشبة المسرح الدولي، تتقاطع نظراتهم، تتشابك أيديهم، وتتحدث أجسادهم بلغة أعمق من الكلمات. في تلك اللحظات، لا تُقرأ السياسات فقط من التصريحات الرسمية، بل من رعشة يد، أو ارتعاشة حاجب، أو نبرة صوت تخون رباطة الجأش. هناك، في قلب واشنطن، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، محاطاً بهالة رجل الأعمال، يفاوض الرئيس الأوكراني زيلينسكي بحدة تكاد تفضح خبايا نفسه، وكأن السياسة ليست سوى صفقة أخرى يساوم عليها.
ليسوا آلهة، بل بشرٌ، يخطئون ويصيبون، ينفعلون ويغضبون، ويدفعون أحياناً أممهم نحو النور، وأحياناً نحو الهاوية. ولأن مصائر الشعوب تُرسم بأناملهم المرتجفة أو الثابتة، فإن تحليل نفسياتهم يصبح واجباً قبل أن يُمنحوا مفاتيح السلطة. فكم من قرارات مصيرية صيغت في لحظة غضب؟ وكم من حروب أشعلتها عقدة نقص أو نزعة انتقام دفينة؟
خذوا صدام حسين مثلًا، ذاك الرجل الذي صنعت صحراء العراق ملامحه القاسية، فجاءت قراراته انعكاساً لعالمه الداخلي المضطرب. لم يكن يرى إلا صورته التي أراد رسمها، حتى أنه في أواخر أيام حكمه، وبينما كانت بلاده على حافة الانهيار، انشغل بكتابة نسخة معدلة من روايته “اخرج منها يا ملعون”، وكأنه كان يبحث في الرواية عن مصيره، غير مدرك أن الخروج لم يكن حكراً على شخصيات الورق، بل كان قدره أيضاً، ولكن على يد قوة أقوى منه. تماماً كما كان معمر القذافي في أيامه الأخيرة مشغولًا بتجميل وجهه لا وجه نظامه، وكأن المرايا كانت تعنيه أكثر من مصير ليبيا التي كانت تتهاوى بين يديه. في وقت كانت ليبيا بحاجة ماسة إلى ترميم سياسي وأمني، اختار أن يخصص اجتماعاً مصيرياً لمجلس الأمن القومي الليبي للحديث عن رغبته في إجراء عملية تجميلية، في إشارة صارخة إلى انشغاله بالمظاهر الشخصية بدلاً من مصير وطنه الذي كان على حافة الانهيار.
كان القذافي نموذجاً حياً لصخب الذات وتقلّباتها. في لحظات عبثية من عمره السياسي، ألقى بميثاق الأمم المتحدة بعيداً، وكأنه يتخلص من عبء النظام العالمي برمته، متجاهلاً تماماً أن النظام الذي كان يعتقد أنه يتحكم فيه ينهار من حوله.
وهتلر؟ لم تكن طفولته سوى مقدمة دامية لمسرحية رعب عاشها العالم بأسره، حيث انعكست قسوته في قراراته الكارثية التي دفعت البشرية إلى حافة الدمار.
الأمر لا يتوقف عند حدود النشأة، بل يمتد إلى البيئة والتعليم والتجربة الشخصية. فلو قُدر لصدام حسين أن يولد في باريس أو لندن، هل كان سيتحول إلى قائد مختلف؟ ولو أن ترامب نشأ بعيداً عن عالم المال والعقارات، هل كان سيتحدث في السياسة بلسان رجل الصفقات التجارية؟ الشخصية تُصقل، والقرارات تُنحت من خام الطفولة والتعليم والتجارب الحياتية، ولهذا تختلف القيادة من زعيم إلى آخر كما يختلف النحت في الحجر عن النقش في الماء.
والمعضلة الكبرى تكمن في الصورة الذهنية التي يصنعها القائد لنفسه، والتي يُكرّسها أتباعه ومريدوه. فكم من طاغية ظن نفسه بطلًا مخلّداً، فقط لأن الجماهير هتفت باسمه، وكم من زعيم تماهى مع أسطورته الشخصية حتى أصبح سجيناً لها، يتحرك داخل قفص وهمي صنعه خياله الجامح.
في عالم أكثر وعياً، تدرك بعض الدول أن القيادة ليست مجرد خطاب رنان أو كاريزما طاغية، بل مسؤولية نفسية ضخمة، ولهذا تشترط فحوصات طبية واختبارات نفسية لمرشحي الرئاسة، ليس لضبط معايير القوة، ولكن لضمان ألا تُسلّم مقاليد الحكم إلى شخص يقف على حافة الجنون. ومع ذلك، يبقى القرار الأخير بيد الشعوب، التي تتأرجح بين الافتتان بالزعيم المخلّص والخضوع للحاكم المستبد.
يعيش الطغاة في عالم منفصل عن واقع شعوبهم، غارقين في تفاصيل تافهة بينما تتداعى دولهم حولهم. ينشغل بعضهم بمظهرهم الخارجي وكأنه مرآة شرعيتهم، بينما يختبئ آخرون خلف رواياتهم التي لا تغير شيئاً من الحقيقة المرة. السلطة المطلقة ليست فقط اختباراً سياسياً، بل هي امتحان نفسي من العيار الثقيل، ومن لم يدرك ذلك، وجد نفسه خارج المشهد، دون أن يستوعب القادمون بعده العبرة.
وهنا يجد المرء نفسه حائراً أمام واقع يعيد نفسه بأقنعة مختلفة، وكما قال المتنبي:
“وسوى الروم خلف ظهرك روم .. فعلى أي جانبيك تميل؟”
إنها ذاتها الدائرة المغلقة التي وصفها محمود درويش:
“سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ،
سقط القناعُ، لا إخوةٌ لك يا أَخي، لا أَصدقاءُ،
يا صديقي، لا قلاعُ لا الماءُ عندكَ، لا الدواءُ ولا السماءُ ولا الدماءُ ولا الشراعُ ولا الأمامُ ولا الوراءُ حاصِرْ حصَارَكَ،
لا مفرُّ، سقطتْ ذراعك، فالتقطها واضرب عَدُوَّك، لا مفرُّ.”
حين تصبح السلطة انعكاساً لهذا الجنون المتخفي، تتحول إلى تهديد وجودي للشعوب، ولا يمكن ضبطها إلا بموازين العدالة، وإلا فإنها ستبقى وحشاً متربصاً، لا يلبث أن يلتهم من أطلق له العنان.
أيها السادة، إن التاريخ يعيد نفسه، وما بين جنون السلطة وسلطة الجنون، يبقى السؤال: من يحكم من؟