انهيار القيم بين ماضي العراق وحاضره


كتب رياض الفرطوسي
في المجتمعات التي شهدت تحولات كبرى، كان المثقف دائماً جزءاً من المشهد، لكنه لم يكن وحده القادر على صنع التغيير. فالمجتمع منظومة معقدة تحكمها قوى اقتصادية وسياسية واجتماعية، والمثقف، رغم أنه حامل لمشاعل الوعي، يبقى عاجزاً عن تغيير الواقع ما لم يجد بيئة حاضنة تدعمه. في التاريخ، لم يكن تأثير المثقف حاسماً إلا عندما ارتبط بفعل جماعي، وإلا أصبح صوته معزولاً وسط ضجيج المصالح والقوى المتصارعة.
وفي قلب هذا الواقع، يقف الفن والفكر بين الحاجة إلى الإبداع والاستقلال، وبين الضرورة الاقتصادية التي تربطهما بمن يملك المال. فالإبداع يحتاج إلى موارد، والموارد بيد البرجوازية أو الدولة. حتى في المجتمعات المتقدمة، حيث تدعم الدولة المشاريع الثقافية من خلال الضرائب، يبقى الفن مشروطاً بمن يموله. الفقير، رغم موهبته، لا يستطيع شراء أدوات الرسم، أو إنتاج فيلم، أو تأمين خشبة مسرح، لأن الفن، ككل شيء آخر، محكوم بمنطق القوة والمال.
لكن المفارقة الأشد قسوة هي أن المجتمعات التي تتباهى بالإنسانية، والتي ألغت عقوبة الإعدام في قوانينها، هي نفسها التي تصمت أمام الجرائم الجماعية، كما نرى اليوم في غزة. التظاهرات التي تخرج هنا وهناك ضد القتل لا تغير من الواقع شيئاً، فالموت مستمر، والعدالة أصبحت انتقائية، تتحرك حيث لا تهدد المصالح، وتصمت حيث يفرض ميزان القوى ذلك.
وفي مجتمعاتنا، لم يكن التغير مجرد تطور طبيعي، بل كان تحولاً قاسياً ضرب عمق العلاقات الإنسانية. كنا نعرف الجار بحق الجيرة، نشاركه الطعام والأسرار، ونتقاسم معه الفرح والحزن. كان الفقير رغم عوزه عزيز النفس، وكان اللص رغم جريمته يمتلك أخلاقاً تجعله يترفع عن سرقة الأرامل واليتامى. كان الشرطي يخجل من ظلم أبناء بلدته، وكان المجتمع يقوم على ميثاق أخلاقي يحكم الجميع دون الحاجة إلى قوانين صارمة.
أما اليوم، فقد انهارت هذه الروابط. تحول الجار إلى متوجس، والصديق إلى مخبر، ولم تعد الأخلاق قانوناً غير مكتوب، بل استثناءً نادراً. لم يعد الجوع مدعاة للتكافل، بل مبرراً للنهب، ولم يعد العوز باعثاً على الرحمة، بل ذريعة للاستغلال. أصبح المجتمع كتلة متنافرة، تتنازعها المصالح الفردية، حتى فقدت العلاقات قيمتها، وباتت الأحلام تُسرق كما تُسرق الثروات.
وفي خضم كل ذلك، ظل العراق، هذا الوطن المنهك، يمنح رغم ما أُخذ منه. حرقناه بالحروب، وقطعنا أشجاره، ونهبنا خيراته، لكنه لم يغلق أبوابه. جردناه من أمنه، لكنه ظل يفتح ذراعيه لنا. سرقناه، لكنه لم يبخل علينا. هذا العراق لم يكن يوماً سوى بستان معطاء، لكنه وقع تحت أقدام لا ترحم، تدوس عليه دون أن تبصر جماله.
قد لا يكون المثقف وحده قادراً على تغيير هذا الواقع، لكنه يبقى ضميراً شاهداً، يحاول أن يُعيد للذاكرة ميثاقها الأخلاقي. فهل كانت تلك الأخلاق التي نحلم بعودتها واقعاً حقيقياً، أم أنها مجرد ذكرى جميلة في زمن لا يقبل إلا لغة المصالح؟ وهل يمكن لوطن استنزفناه طويلاً أن يمنحنا فرصة أخرى، أم أن الخراب قد أصبح قدره الذي لا مفر منه؟